رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

مع محمود قرنى

يوجد أشخاص فى الثقافة المصرية بذلوا أعمارهم فى سبيل العدل والخير والجمال، لم ينتظروا مكافأة من أحد، عملوا على إشاعة المناخ الإبداعى فى مواجهة التشدد وضيق الأفق، أشخاص مستقلون، استمدوا سلطتهم من نبل المقصد والعمل الدءوب، هؤلاء، ولحسن الحظ ليسوا قليلين، هم الذين يصنعون لهذه الأمة ذاكرتها النقية فى توقيت مزدحم بالشوائب والأبطال التليفزيونيين، الشاعر محمود قرنى واحد من هؤلاء، ليس بسبب شعره الذى يحتل مكانة عالية على خريطة الشعر العربى الحديث، ولكن لأنه نموذج للمثقف الذى لم يتورط فى الحسابات الآنية التى أفسدت كثيرين، وعاش منحازا لأشواق أهله ووطنه، وناضل على طريقته ضد الاستبداد وضد المتمسحين بالدين الحنيف ودعاة التطبيع مع العدو الإسرائيلى ومناضلى التمويل الأجنبى، هو مع الدولة المدنية، ويعرف قدر الجيش المصرى ومكانته العظيمة فى الوجدان الجمعى، قرنى الذى يستعد هذه الأيام لإجراء عملية زرع كبد، صدرت له أربعة كتب دفعة واحدة، تشير إلى جزء صغير من مسيرته فى الشعر ومع العمل العام، أبطال الروايات الناقصة (مختارات شعرية)، الوثنية الجديدة وإدارة التوحش (عن التحولات الفكرية وتأثيرها فى مصير الإنسان المعاصر)، لماذا يخذل الشعر محبيه؟! (حديث عن مستقبل الشعر فى عالم جديد)، بين فرائض الشعر ونوافل السياسة (الشعر العربى بين ثلاثة أجيال)، الكتب التى صدرت عن دار الأدهم تشير الى أحد رموز جيل الثمانينيات، الذى سلك طريق الإبداع من أوله، وعلى ذراعه، بدون كفيل ما، بلغ الستين هذا العام وكبر الطفل الذى بداخله أيضا، هو يعرف أن تاريخ البشرية هو تاريخ الاضطهاد، وأن وظيفة الشعر محاصرة الاغتراب، محمود قرنى الذى تعرفت اليه منتصف الثمانينيات من القرن الماضى، وقطعنا المدينة ذهابا وإيابا، وسكنا فى تجاعيدها، وسط مجموعة من الغرباء الذين جاءوا من قراهم من أجل هدف نبيل غامض، من أجل كتابة جديدة ومستقبل أرحب ومساحات آمنة للركض والأحلام، عقود من المحبة والسعى والفقد والخسارة، وقليل من الانتصارات، بدأ محمود كما بدأت يكتب شعر التفعيلة، وتحول إلى قصيدة النثر، لم يكن تحوله مفتعلا، كان استجابة لتحولات سياسية وفكرية عميقة فى العالم كله، وأيضا هزيمة المشروع القومى وإعلان وفاته مطلع التسعينيات، القصيدة بدأت غريبة لأنها وضعت أمام تقاليد الشعر العربى الذى شكل الذائقة على مدى قرون، شعرنا القديم ترك لنا شعراء عظاما، وربما أكثر أهمية من شعراء مشهورين فى التراث الإنسانى، دافع عن القصيدة الجديدة وأسهم فى التأسيس لجمالياتها من خلال الكتابة والمشاركة فى المؤتمرات فى فرنسا ومعظم الدول العربية، إضافة إلى اختياره محكما فى أرقى الجوائز، هو أبرز مؤسسى ملتقى قصيدة النثر بالقاهرة، وجماعة شعراء التى استضافت فاعلياتها نقابة الصحفيين، هذا بخلاف دوره فى تأسيس عدد من المجلات الثقافية المستقلة مثل الكتابة الأخرى مع هشام قشطة، محمود الذى ولد فى قرية العدوة فى الفيوم سنة 1961، وتخرج فى كلية الحقوق، وعمل بالمحاماة والصحافة، يرى أن قصيدة النثر يجب ألا تكون مطية لمن فشل فى أن يكون شاعرا وفشل فى تعلم قواعد العروض، لأن الحرية فى كتابتها لا تعنى حرية التراكم، قصيدة النثر صعبة جدا، لأن كتابها الموهوبين مطالبون بتقديم اقتراح جمالى يجيب على أسئلة زماننا، قرنى يرى أن الخطر الحقيقى على الشعر فى هذا الزمان يأتى من منطقة أخرى ليس بينها صراع الأجيال، ولكنه الخطر الذى يتمثل فى تمدد سلطة المحافظين على صعود تيارات التجديد والمجددين من كل الأجيال، والعزلة هى أخطر ما واجه الشاعر الحديث الذى من المفترض أن ينتخبه الضمير العام تعبيرا عن أشواقه للجمال والحرية، لكن التحولات الفكرية والسياسية التى حدثت خلال القرن الماضى كان لها أبغض الأثر على العلاقة بين الشاعر وجمهوره، وفى ظل زمن جديد يقوم على تبادل المنفعة، ويمكن أن ندرك ـ كما كتب فى مقدمة كتابه بين فرائض الشعر ونوافل السياسة ـ لماذا تثير قصيدة شعرية تقزز الساسة ورجال المال والمحافظين الباحثين عن منتجعات للراحة، بعيدا عن الضجيج غير المحتمل لكائنات، ستظل فى نظرهم، حالمة وضالة، هو لا يعتبر الشعر خسر المعركة أمام فن الرواية، لأن الشعر هو نفحة الفطرة الأولى، بينما الرواية بنت العصر الصناعى، والروائى الجديد أكثر واقعية ورومانسية وقادر على تبادل المواقع مع السلطة والقيام ببعض مهامها، أما الشاعر فساخط عظيم على كل هذا، موقف محمود قرنى من التطبيع ليس موقفا موسميا، ولكنه يعرف جيدا أن غياب المناعة التاريخية عن الكيان الاستئصالى الذى يحتل أرضا عربية يأتى على رأس الأسباب التى تدفعه الى التعامل بعدائية عنيفة مع الكتل الحضارية القديمة، هو يملك المال والقوة، ولكنه لا يستطيع أن يشترى لنفسه تاريخا، إسرائيل هى الوحيدة الباقية من تاريخ الهمجية، ولذلك يدعمها الغرب باعتبارها حديقة خلفية لفرض مشاريع الاستشراق الجديد الذى يسعى الى إشعال الصراع الحضارى على أسس عقائدية، محمود قرنى صديقى الذى أثق وأحتكم طوال الوقت الى فطرته النقية وذائقته الشفافة، والذى قطعت معه المشوار من أوله، وتعثرنا ونهضنا كثيرا بصحبة عدد لا بأس به من الأصوات الناصعة، مثل فتحى عبدالله إبراهيم صديقنا الحبيب الذى رحل قبل أسابيع قليلة، هو نفسه الشخص الطيب سريع الغضب، المتسامح، الوطنى، الشريف، الذى أصدر أربعة كتب دفعة واحدة تستحق الاحتفال .. الاحتفال الذى لن يكتمل إلا بنجاح العملية بإذن واحد أحد.


لمزيد من مقالات إبراهيم داود

رابط دائم: