ليس مجرد آثار حجرية أو قصص وأساطير عن البشر والآلهة، ذلك الذى بقى من حياة المصريين القدماء، فما زال هناك ما بقى منه حيا نابضا فى كثير من مظاهر حياتنا اليوم، حيث إن هناك أسماء لأشخاص وقرى لم تزل تحتفظ بأسمائها عبر عشرات القرون، لكن المذهل فى الأمر هو بقاء كثير من العادات الاجتماعية حتى الآن، تتجلى فى كثير من مظاهر الحياة اليومية المصرية خصوصا فى العادات الجنائزية من لحظة وقوع الوفاة وحتى الدفن.
فقد صور لنا كثير من جدران المقابر وخصوصا مقبرة الوزير «رع موسى» بالبر الغربى بالأقصر من الأسرة الثامنة عشرة، ما كانت تفعله النائحات على الميت عند وداعه الأخير.
وحتى عهد قريب وربما لم تزل فى بعض المناطق فى الصعيد، باقية على عهدها فى طريقة تعبير الندابات عن حزنهن بلطم الخدود وشق الملابس وإهالة التراب على الرؤوس عند وفاة عظيم أو عزيز غال.
..............................
«ذكرى الأربعين»
الاحتفال باليوم الأربعين لوفاة الشخص، هو أهم هذه العادات الباقية حتى الآن والتى يبدو أنها ستستمر طويلا، بسبب حرص المصريين عليها كأهم طقس من الطقوس الجنائزية، فالمصريون على اختلاف فئاتهم وانتماءاتهم الاجتماعية والدينية ومستوياتهم الثقافية والاقتصادية، لا يمكن لهم إهمال هذا الطقس الأساسى ولابد من إحياء ذكرى الأربعين، سواء كان الميت مسلما أو مسيحيا، ويتم الإعلان عنها ويستقبل فيها المعزون من الأقارب أو أصدقاء الميت وهى تعتبر إيذانا بانتهاء مراسم العزاء وهناك اعتقاد راسخ لدى الكثيرين، بأن روح الميت تظل عالقة ببيته مدة أربعين يوما، لكن أصول هذه العادة الجنائزية واردة فى الآثار المصرية القديمة، حيث كانت عملية التحنيط تستغرق من 40 إلى 70 يوما «وهناك روايات تتحدث عن مدد أطول» ولكن الغالب كانت مدة الأربعين، حيت يكون قد تم تجفيف الجثمان من السوائل وذلك قبل إيداع جثة الميت بعد تمام تحنيطها فى المقبرة.
وفى خلال هذه المدة كان المصريون القدماء يحرمون كل أشكال الزينة على الرجال والنساء معا، فعادة ترك شعر اللحية تعبيرا عن الحزن مع عدم وضع أى أصباغ أو مواد للزينة أو معطرات وارتداء ثياب مخصصة للحداد، هى عادات مصرية قديمة وصميمة، كذلك الامتناع عن الأطعمة الفاخرة وخاصة اللحوم والحلوى والامتناع عن إظهار أى شكل من أشكال الفرح أو الاحتفالات مهما دعت الأسباب، من الموروثات الباقية حتى الآن طوال فترة الحداد على الميت، بل إن فكرة فترة الحداد نفسها، هى فكرة مصرية قديمة، فالاهتمام بالموت وما يتعلق بمظاهر التعبير عنه، شغلت ومازالت تشغل المصريين سواء القدماء أو المحدثين.
«إيزيس تغنى للموت»
ورد فى قصة «إيزيس وأوزوريس» الخالدة، مقطوعات غنائية للرثاء قالتها إيزيس تعبيرا عن حزنها على أوزوريس، وبهذه الأبيات افتتحت الربة المصرية القديمة، أغانى الموت لكل شعوب الأرض وسجلت نفسها كأول ندابة فى تاريخ البشرية، ثم ما لبثت أن شاركتها فى التعبير عن محنتها أختها «نفتيس» فعرفت الشقيقتان بالندابتين وكان ظهورهما ضروريا فى المقابر وهما تقفان عند رأس الميت، فصارت إيزيس بحزنها العظيم على رفيق حياتها الذى قتل غدرا، رمزا باقيا للوفاء بكل ما حملته من أحزان، فانتشر تقديسها عبادتها فى المشرق والمغرب والجنوب والشمال فى مصر ومحيطها من الشعوب والحضارات المحيطة بوادى النيل بشكل مثير للعجب.
وظل الرثاء بالشعر والأغانى والنثر، مظهرا مرتبطا بالموت فى كل الأجيال التالية، فأغانى الموت اختراع مصرى صميم منذ أن نطقت إيزيس بهذه الكلمات التى تقول: «تعال نحو بيتك.. أنت يا من لم يعد له أعداء، أيها اليافع الجميل.. تعال إلى بيتك لكى ترانى.. أنا أختك التى تحبها.. لا تبتعد عنى.. أنا لا أراك؛ ومع ذلك قلبى يصبو إلى لقياك، وعيناى تلتمسان رؤياك».
«اعدلوه على القبلة»
لعل أهم ما يحرص عليه من يقوم بوضع جثمان الميت فى المقبرة الآن، هو أن يجعل الميت مستقبلا القبلة، والقبلة فى مصر هى الجنوب، فكلمة «قبلى» مرادفة لكلمة «جنوبى» فى كل مكان فى مصر بغض النظر عن اتجاه قبلة الصلاة التى تختلف من مكان لآخر فى أنحاء مصر حسب الموقع من مكة المكرمة فالملاحظ حسبما ذكر العلامة الكبير د. سليم حسن فى موسوعة مصر القديمة- أن جميع أوضاع الموتى فى مصر القديمة، حتى منذ عهد ما قبل التحنيط، تتجه إلى الجنوب، فقد كان هناك اعتقاد راسخ لدى المصريين القدماء، أن أجدادهم انحدروا من الجنوب من جهة بلاد «بونت» وهى البلاد التى طالما ارتبطت بكثير من أحداث التاريخ المصرى والتى توجتها الملكة حتشبسوت ببعثتها الشهيرة إليها والمسجلة على جدران معبدها بالدير البحرى.
فوضع الميت المصرى المسلم الآن مواجها الكعبة المشرفة فى مكة المكرمة، له جذوره التاريخية الضاربة فى أعماق التاريخ المصرى القديم بل وتتجاوز التاريخ المكتوب إلى عصور ما قبل التاريخ، كما أن اتجاه مكة نفسه غير بعيد عن الاتجاه العام لبلاد بونت الواقعة فى الجنوب، فجعل الميت متجها نحو الجهة القبلية يبدأ منذ خروج الروح وحتى الدفن، فجاءت النهاية كتعبير عن الحنين إلى البداية!
هذا مع الأخذ فى الاعتبار أن تكريم الميت والمحافظة بقدر الإمكان على بقاء جسده تمهيدا لبعثه فى الحياة الأخروية، هو أمر تفوقت فيه الحضارة المصرية القديمة وبرزت فيه كل الحضارات السابقة بإبراز الاهتمام بالإنسان فى تلك الرحلة الغامضة بعد الموت، فلم يعر المصريون لغموض الموت اهتماما، بل تعاملوا معه كواقعهم اليومى، وزادوا أن أعطوه جل اهتمامهم ليتركوا للإنسانية بعدهم أعظم تراث عن الموت سواء فى مقابرهم المنحوتة تحت الجبال أو أهرامهم البارزة فوق الأرض، لتنفى عن الموت عار العدم وتهب الإنسان الرجاء الدائم فى حياة الخلود!.
رابط دائم: