رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

عشر سنوات.. كيف وصل الصراع فى سوريا إلى وضعه الراهن؟

تمر هذا الشهر الذكرى العاشرة لانطلاق «الثورة السورية» وبداية الصراع السياسى حول حكم البلاد والسيطرة على أراضيها. لم يكن انطلاق الثورة منعزلاً عن مجمل الأحداث فى المنطقة فيما يُعرف بالربيع العربي، لكن الأمر فى سوريا تطور فى غضون شهور قليلة إلى «خريف» ثم إلى «شتاء» عاصف انتهى بحرب متعددة الأوجه، خلّفت نحو نصف مليون قتيل وأدت إلى تشريد نصف السوريين –نحو 13.7 مليون- بين لاجئين خارج البلاد أو نازحين فى مناطق أخرى داخل البلاد. ويتسم الصراع السورى بطول أمده وتشعب الأطراف الضالعة فيه سواء الداخلية أو الخارجية، لكنه يتسم أيضاً باختلاف مقاربات توصيفه وفقاً للزاوية التى يتم من خلالها النظر إليه، ولذا فللصراع السورى أكثر من قصة.

قصة الثورة

عندما انطلقت المظاهرات الأولى من محافظة درعا لم يكن يخطر ببال أسوأ المتشائمين بشأنها المصير الذى بلغته البلاد بعد عشر سنوات. انطلقت المظاهرات بعفوية وحماس. غير أن التعامل الأمنى العنيف من جانب حكومة دمشق أدى إلى اتساع المظاهرات بشكل متزايد فى عدة محافظات أخرى خرجت للتضامن مع فتيان درعا. انطلقت المظاهرات فى معظم المحافظات على مدار أشهر خلال عام 2011 كل جمعة لترفع شعارات الحرية والكرامة ووحدة الشعب رغم الاختلافات المذهبية والعرقية. ولكن نظراً لانعدام النشاط السياسى الحر فى سوريا فيما مضى من سنوات حكم حزب البعث منذ عام 1963، لم يتمكن السوريون من تكوين أحزاب أو تحالفات سياسية تمثل مطالبهم بشكل منظم.

من جهة ثانية، لم تكن حكومة دمشق بوارد السماح بتمرير إصلاحات سياسية واقتصادية حقيقية تغير من جوهر وطبيعة الحكم وتحمل منافسين محتملين من خارج حزب البعث إلى السلطة، الأمر الذى أدى إلى تصدر الحل الأمنى الخشن كحل وحيد بيد النظام. فى هذه الأثناء خرج السوريون فى مظاهرات واسعة النطاق وسقط منهم المئات بفعل إطلاق الرصاص الحى على المتظاهرين، بينما قال النظام أن المتظاهرين سقطوا برصاص مجهول من مسلحين مأجورين من أطراف خارجية لزعزعة استقرار البلاد. اتهم المعارضون النظام بقنص المتظاهرين.

قصة الإرهاب والتطرف

لم تكن المظاهرات فى البداية سوى تعبير سلمى عن مطالب بالحرية والكرامة وإصلاح النظام السياسي، غير أن رفض النظام الاستجابة لهذه المطالب وملاحقة الضالعين فيها أدى شيئاً فشيئاً إلى فقدان الإيمان بفكرة السلمية والانزلاق نحو عسكرة الصراع السياسي. بدأ تسلح الثوار لحماية المناطق التى يستعد النظام لمداهمتها وملاحقة المنخرطين فى المظاهرات فيها. وهنا بدأت تنشأ حاميات عسكرية للأحياء والقرى تكونت فى البداية من عدد قليل من الجنود الذين انشقوا عن قوات الأمن والجيش وفروا بسلاحهم الخفيف ولكن سرعان ما التحق بهم سوريون مدنيون أصبحوا مؤمنين بخيار تسليح الثوار. فى هذه الأثناء بدأ تنظيم القاعدة بقيادة أيمن الظواهرى آنذاك يجد فى سوريا أرضاً خصبة للتوطن وتجنيد المتطرفين فأصدر فى صيف 2011 بياناً يدعو معتنقى فكر تنظيم القاعدة الإرهابى إلى توجيه جهودهم لـ«نصرة أهل الشام» فبدأ تقاطر المقاتلين العرب والأجانب إلى سوريا لتلبية هذا النداء وقتال القوات النظامية فى عدة مناطق متفرقة من سوريا. ومن ثم، أصبح فى سوريا خطان أساسيان من المسلحين الذين يقاتلون القوات النظامية: مسلحون انشقوا عن الجيش ويتبنون شعارات الثورة على أساس وطنى وعلماني، وآخرون يقاتلون على أساس إسلامى متشدد التحقوا بجبهة النصرة على أجندة تنظيم القاعدة. ولكن سرعان ماتبين الفارق فى المهارات القتالية والقدرات التسليحية بين الخطين، وأصبحت لجبهة النصرة اليد العليا والقدرة على التوغل فى مناطق متعددة من سوريا وهزيمة قوات النظام السورى الذى كانت تسانده ميليشيات شيعية عراقية ولبنانية بدعم عسكرى ولوجستى من إيران.

وكان لانخراط الميليشيات الشيعية أثر بالغ على تغيير التوجه العام للمعارضة من الخطاب الوطنى الجامع إلى الخطاب المذهبى الرافض لسيطرة أقلية تنتمى للمذهب العلوى على أغلبية شعبية تنتمى للمذهب السُني، الأمر الذى أضفى مزيداً من الجاذبية على الخطاب الدينى المتشدد الذى كانت تروج له جبهة النصرة وتجند الشباب السورى والأجنبى على أساسه. وفى ظل اعتقال مُنظمى المظاهرات السلمية وتقاطر المقاتلين الأجانب والعرب إلى سوريا، أخليت الساحة للمسلحين الإسلاميين المتشددين، وتناقصت أعداد النشطاء السلميين الذين أشعلوا فتيل الثورة فى بداية الأمر. ثم حدث فى ربيع عام 2013 الشقاق الشهير بين جبهة النصرة بقيادة أبو محمد الجولانى من جهة، والدولة الإسلامية بالعراق والشام- داعش- بقيادة أبوبكر البغدادى من جهة أخري، والتحقت أغلب الكتائب الإسلامية المتشددة بداعش والبغدادى وأسقطت الحدود بين سوريا والعراق فى صيف 2014 وتم ابتلاع نحو 40% من مساحة البلاد لمصلحة «دولة الخلافة» المزعومة بين ليلة وضحاها.

قصة اللجوء والنزوح

عادة ما يهرب السكان المدنيون من أماكن القتال بشكل مؤقت ثم يعودون إلى مناطقهم حال توقف أعمال العنف، لكن السوريين الذين فروا من مناطقهم مع بداية عسكرة الصراع أصبح لجوؤهم المؤقت شبه دائم دون وجود أفق لعودتهم مرة أخري. فر السوريون فى بداية الأمر من المناطق التى تزايدت فيها الحملات العسكرية للنظام رداً على المتظاهرات المطالبة بالتغيير، ثم مع امتداد سيطرة الكتائب المتشددة وخاصة داعش وجبهة النصرة أصبح الأهالى يفرون أيضاً من الحكم المُقيِّد الذى فرضته هذه المجموعات الإرهابية عليهم. انتقل السوريون فى بداية الأمر إلى خارج مناطقهم ثم إلى خارج البلاد لدول الجوار، أى لبنان وتركيا والعراق ومصر والأردن، ومن ثم أصبحوا فى وضع لجوء مؤقت فى هذه البلدان فيما اختار بعضهم اللجوء لدول غربية.

لكن فى صيف عام 2015، قررت الهيئات الأممية الضالعة فى إغاثة اللاجئين السوريين فى دول الجوار تخفيض المخصصات الغذائية والمالية التى يحصل عليها اللاجئون بسبب انخفاض المساعدات المرصودة من الدول المانحة بالمقارنة مع أعداد اللاجئين المتزايدة. وكان هذا القرار عاملاً مهماً فى اتخاذ عشرات الآلاف من السوريين قراراً بعبور البحر المتوسط بشكل غير نظامى نحو أوروبا للحصول على فرص لجوء أفضل والخروج من وضع الفقر والعوز فى دول الجوار. يقترب عدد اللاجئين السوريين بالخارج اليوم من نحو 6.6 مليون سورى منهم 5.6 مليون فى دول الجوار ومليون سورى بالدول الغربية، بينما نزح نحو 6.7 مليون سورى إلى مناطق أخرى داخل البلاد بعيداً عن الصراع المسلح ولكنهم يعتمدون بشكل شبه حصرى على مساعدات الأمم المتحدة والمؤسسات الإغاثية التابعة لها. ورغم توقف القتال فى مناطق واسعة من سوريا اليوم، فإن شروط المناخ الآمن التى تشجع على العودة الطوعية للاجئين لم تتحقق بعد فى ظل عدم تغيير أساليب الإدارة الأمنية التى يتبعها النظام فى المناطق العائدة إلى سيطرته، فضلاً عن الوضع الاقتصادى المتردى فى سائر أنحاء سوريا.

قصة التدخل الخارجى والتقسيم

لم يكن أبداً التدخل الخارجى فى الشأن السورى أمراً عابراً بل كان مصاحباً لبداية الأزمة حتى أدى إلى تقسيم البلاد بسلطة الأمر الواقع. بداية المظاهرات السلمية كانت متأثرة بشكل ملحوظ بمثيلاتها فى العالم العربي، وكذلك قرار النظام السورى بمواجهة المظاهرات بالقمع المباشر كان متأثراً بالقرار الإيرانى المشابه بقمع مظاهرات الطلاب فى عام 2009. ولذا عندما أيدت طهران حكومة دمشق بكل الدعم اللازم من أجل مساعدتها للتغلب على المظاهرات الشعبية، بدأت أطراف أخرى فى مساندة قوى المعارضة التى بدأت تتشكل فى الداخل والخارج وفى مقدمتها تركيا. ابتعثت الأخيرة، ودول أخري، مبعوثين لدمشق من أجل التوسط لحل الأزمة بشكل سياسى سلمي، ولكن عندما فشلت المساعى بدأت هذه الدول فى سحب سفرائها من دمشق ثم اُتخذ قرار تجميد عضوية سوريا فى الجامعة العربية فى نوفمبر 2011. ومن ثم بدأ معسكرا الحرب السورية فى التشكل بين فريق يدعم النظام السورى وفى مقدمتهم إيران والميليشيات التابعة لها من المسلحين الشيعة اللبنانيين والعراقيين ومن بعض الدول الآسيوية الأخري، وفريق آخر يدعم قوى المعارضة السياسية والمسلحة ويتمثل فى تركيا وقطر تحديداً.

أما على المستوى الدولي، فقد ساندت روسيا والصين حكومة دمشق وزادت عنها فى مجلس الأمن الدولى معززة بحق الفيتو فى نقض كل قرارات الإدانة الدولية التى تصوغها الدول الغربية بحق النظام السوري. وفى ذلك كانت روسيا تخشى إصدار قرار دولى يدين النظام ويسمح بتدخل عسكرى دولى على غرار ما حدث فى ليبيا بشأن القرار 1973 الذى سمح لحلف الناتو بتوجيه ضربات جوية ضد نظام القذافى آنذاك. ومن ثم، نشأت سريعاً حالة من الجمود فى مجلس الأمن تُذكِّر بما كان يجرى فى أثناء الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقى والغربي، ومن ثم شُلت الآلية الأممية لحفظ السلم والأمن الدوليين عن التقدم لحل الأزمة فى سوريا. فى المقابل، عندما هدد الرئيس الأمريكى الأسبق باراك أوباما بتوجيه ضربة عسكرية لسوريا كرد مباشر على اتهام النظام باستخدام السلاح الكيماوى فى ريف دمشق فى أغسطس 2013، تدخلت موسكو للتوسط ونجحت فى اقتناص تعهد من النظام بتسليم أسلحته الكيماوية ضمن جدول زمنى محدد، بينما بقيت الأسلحة التقليدية الأخرى متاحة للاستخدام فى الحرب. من جانب آخر، كان الدعم العسكرى للقوى المسلحة المعارضة يتدفق إلى الأراضى السورية خاصة عبر الحدود التركية، وهو الأمر الذى أدى إلى فوضى عسكرية غير مسبوقة وأسهم فى اقتناص مساحات شاسعة من الأراضى خسرها النظام لمصلحة المجموعات المسلحة حتى لم يتبق له سوى أقل من 40% منها.

ثم مالبث «داعش» أن دخل فى مواجهة مسلحة عنيفة مع مختلف الفصائل المسلحة وتمكن من السيطرة على قسم كبير من الأراضى التى خسرها النظام وبسط سلطته عليها، وأعلن البغدادى «دولة الخلافة» المزعومة. تسبب هذا التمدد الكبير لداعش فى شحذ كل الجهود الدولية وتكوّن التحالف الدولى لقتاله وبدأ فى توجيه ضربات جوية لمعاقل التنظيم فى سوريا فى سبتمبر 2014. ولكن التحالف الدولى الذى واجه «داعش» بالقصف الجوى كان ينقصه حليف محلى لمواجهته فى المعارك البرية، وهكذا، تعززت سلطة الوحدات الكردية بالتحالف مع القوى الغربية لقتال داعش، مما ساعد القوى الكردية، خاصة قوات سوريا الديمقراطية –قسد- فى فرض سيطرتها بشكل واسع وشبه مستقل فى مناطق سيطرتها فى الشمال الشرقى للبلاد. وفى المقابل، كانت المعارضة المسلحة تفقد قسماً من مصادر تمويلها ودعمها، فأصبحت بالكامل تحت رحمة تركيا التى تمدها بالدعم متى شاءت وتحجبه عنها متى شاءت.

فى خريف 2015، قررت موسكو التدخل العسكرى فى سوريا لمساندة النظام بشكل وثيق عن قرب. بالتزامن مع ذلك بدأت الأطراف الدولية المساندة لطرفيّ الصراع فى الاتفاق على مبادئ أساسية لحله، وقد تمثل ذلك فى القرار 2254 الصادر فى ديسمبر 2015 الذى قرر عقد جولات متوالية من المفاوضات غير المباشرة بين ممثلين عن المعارضة والنظام فى جنيف برعاية أممية. لكن مع الفشل المتكرر لجولات المفاوضات، قررت موسكو فى 2017 التدخل بآلية بديلة للمفاوضات وهى آلية سوتشى التى جمعت موسكو وطهران وأنقرة وعقدت عدة جولات للتفاوض حول آليات لخفض الصراع العسكرى فى أربع مناطق أساسية تغطى أغلب أنحاء الرقعة السورية.

تقرر وفق هذه الاتفاقات نقل المقاتلين من هذه المناطق إلى إدلب والسماح بعودة سلطة النظام بها فى مقابل وقف الحملات العسكرية والقصف الجوى ضدها. ومن ثم، استعاد النظام السيطرة على محافظات ريف دمشق ودرعا وحمص ومدينة حلب، بينما بقيت إدلب وريف حلب الشمالى تحت سيطرة فصائل المعارضة المسلحة الموالية لتركيا وهيئة تحرير الشام –جبهة النصرة سابقاً. وتمكنت القوات الكردية بمساندة التحالف الدولى من طرد «داعش» من الحسكة والرقة والسيطرة عليها، بينما ساعدت روسيا القوات النظامية على طرد «داعش» من شرق حمص ودير الزور. وإزاء تمدد نفوذ الأكراد، أرادت تركيا أن توقف تمدد نفوذ الأكراد فسيطرت على شمال حلب غرب الفرات ومناطق محدودة شرق الفرات ضمن حملات عسكرية متتالية فى أعوام 2016 و2018 و2019.

أما الفصل الأخير للتدخل الخارجي، فيجرى حالياً بواسطة العقوبات الاقتصادية المفروضة على دمشق وخاصة من جانب قانون «قيصر» الأمريكي. إذ تدهورت الأوضاع المعيشية والاقتصادية بشكل متسارع فى سوريا خلال العام الأخير وأصبح توفير سبل العيش فى الداخل أمراً شبه مستحيل فى ظل ارتفاع أسعار المواد الأساسية وندرتها وتدهور قيمة العملة. وعزز من ذلك اشتراط الدول الغربية تغيير جوهر النظام وتشكيل حكومة ممثلة تتولى إدارة شئون البلاد قبل الشروع فى تمويل أى مشاريع لإعمار ما تهدم جراء الحرب أو إنقاذ الاقتصاد المتردي. ورغم نجاح النظام فى استعادة السيطرة على أغلب الرقعة السورية، أصبح حكم هذه الرقعة صعباً للغاية فى ظل انعدام الموارد الاقتصادية للنظام واختناقه بفعل الحصار الاقتصادى للعقوبات الأمريكية والأوروبية، بل أدى ذلك إلى تزايد السخط الشعبى ضده من قطاعات شعبية لم تكن تعارضه فى بداية الصراع، مما يجعل من إدخال تعديلات جوهرية على طبيعة النظام أمراً شبه حتمى إذا ما أراد الامتثال للقرار 2254 بالتوصل لحل سياسى للصراع واستقبال الدعم الاقتصادى اللازم لإعادة الإعمار.


لمزيد من مقالات رابحة سيف علام

رابط دائم: