قطعا لم يكن مقال مجلة «فورين أفيرز» فى عددها الأخير عن تراجع الديمقراطية فى الهند مفاجأة لكثير من المتابعين لأحوالها، ربما المفاجأة أن المقال جاء بعد سبعين سنة من وصف الهند بأنها أكبر ديمقراطية على كوكب الأرض، مقارنة بعدد سكانها الذى يقترب من مليار ونصف المليار نسمة، وسكان الكوكب مغرمون بالأرقام والإحصاءات تحت قول وهمى شائع بأن الأرقام لا تكذب، مع أن الأرقام مجرد «حقيقة» مصمتة، جماد لا يتحول إلى كائن حى إلا بالتفسير، والتفسيرات درجات ومذاهب ومناهج وأغراض، ومن الأخطاء الشائعة أن يُذكر أى رقم دون ربطه بدوره فى الحياة، فى جودتها وتطورها.
إذن هل يمكن للهند أن تكون أكبر ديمقراطية على كوكب الأرض بسبب الرقم الضخم لسكانها دون أى اعتبار للكيفية التى يعيش بها أهلها فى حياتهم اليومية؟
طيب، ماذا لو قلنا إن اقتصاد الهند هو الخامس عالميا متفوقا على بريطانيا وفرنسا؟
فعلا العبارة صحيحة من حيث الترتيب الرقمي، فإجمالى الناتح المحلى الهندى حسب تقرير صندوق النقد الدولى فى 2019 يقترب من 3 تريليونات دولار، ويقل عنه الاقتصاد البريطانى بنحو مائة مليار دولار، والاقتصاد الفرنسى بمائتى مليار دولار. بل يتوقع التقرير أن ترتفع الهند إلى المرتبة الرابعة متجاوزة ألمانيا فى عام 2026. لكن خبراء التحليل النوعى لهذه الاقتصاديات يقولون شيئا مغايرا، فعدد سكان الهند عشرة أضعاف سكان بريطانيا وفرنسا معا، أى كل مواطن فى هاتين الدولتين يساوى عشرين هنديا فى الكفاءة الاقتصادية والتمتع بجودة الحياة. لكن الدكتور ميلان فاشناف كاتب المقال فى مجلة «فورين أفيرز» لا يهتم بجودة الحياة فى الهند ولا نوعية المعيشة ولا طبيعة العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية السائدة، وينصب تركيزه على التخفيض الذى أنزلته منظمة فريدوم هاوس على الديمقراطية الهندية، وحرمتها من وصف «دولة حرة ذات نظام ديمقراطى انتخابي» إلى دولة شبه حرة ذات نظام سلطوى انتخابي، مثلما الحال مع تركيا والمجر. والدكتور ميلان يشغل منصب مدير برنامج جنوب آسيا فى مؤسسة كارنيجى للسلام، وهو متخصص فى الاقتصاد السياسى الهندي، وتشغله قضايا الفساد والحوكمة وكفاءة الدولة، وسياسة توزيع عوائد التنمية والسلوك الانتخابي، وله كتاب مهم حصل على جائزة أفضل كتاب غير روائى صدر عام 2017، طبعة جامعة أكسفورد، وعنوانه «حين تفيد الجريمة..المال والعضلات فى السياسة الهندية».
ولا يربط الدكتور ميلان أسباب التراجع الديمقراطى بالانتخابات التى مازالت فى رأيه حرة ونزيهة إلى حد كبير، لكن بالتفاصيل التى تتشكل منها الديمقراطية مثل سيطرة الأغلبية الهندوسية على السياسة، وهيمنة السلطة التنفيذية على بقية سلطات الدولة، وتضييق الخناق على المعارضة ووسائل الإعلام..أى أن الانتخابات النزيهة ليست هى الديمقراطية.
وكالعادة يفصل الدكتور ميلان خريطة الصراعات السياسية ولعبة السلطة، وكيف أدت شخصية رئيس الوزراء ناريندرا مودى القوية وشعبيته الطاغية إلى تلك التحولات، التى جعلت منه قائدا مطاعا، يتمتع بسلطات تنفيذية واسعة لم يسبق أن حازها رئيس وزراء قبله، مستغلا غضب الهندوس من العلمانية، التى انتهجتها الهند بعد الاستقلال، واعتبرها الهندوس تعبيرا مهذبا لما أطلقوا عليه «استرضاء الأقلية»، وهم يقصدون الأقلية المسلمة. تفسيرات الدكتور ميلان تركزت على لعبة السياسة دون أن تتحدث عن حياة الناس، لكنه ذكر بضع عبارات هامشية، عن تفشى الفساد وعدم نجاح البرنامج الاقتصادى بدرجة كبيرة وتأثير الرجعية الدينية على مراكز صناعة القرار.
والسؤال: هل الديمقراطية هدف فى حد ذاتها، يعنى انتخابات حرة ونزيهة وأحزاب متنافسة على السلطة وكفي؟
قد تبدو الإجابة سهلة للغاية..لكن واقع الإنسان فى العالم يقول إنها فى غاية الصعوبة، بدليل أن الهند التى عاشت هذه الديمقراطية منذ استقلالها عام 1947 تعانى انتكاسة يتوقع الكاتب استمرارها فى السنوات المقبلة؟
وهنا دعونا نسأل سؤالا ساذجا وبديهيا: لماذا اخترع الإنسان نظام الحكم أول مرة؟
نظام الحكم هو أداة لإدارة الجماعة الإنسانية ومواردها بطريقة تحقق لها أمرين وهما الحماية وجودة الحياة، والحماية تتولاها الجيوش القوية، والهند عندها جيش قوامه أكثر من 5 ملايين مقاتل، ويعد الرابع على العالم من حيث القوة المادية. لكن لو تحدثنا عن جودة الحياة، قد لا نصنف الإنسان الهندى فى جدول سكان العالم الذين يتمتعون بمستوى معيشى معقول، رغم قوة دولته العسكرية، وإجمالى ناتجها المحلى الذى يأتى خامسا على العالم رقميا. قطعا لا يمكن مقارنة ما كانت عليه الهند وأهلها قبل أربعين أو ثلاثين سنة، وما هى عليه اليوم، فقد تضاعف إنتاجها القومى ست مرات وصنعت معدلات نمو عالية، لكنها لم تستطع صناعة قطيعة ثقافية مع عناصر التخلف داخل بنية المجتمع ربما بسبب الأوضاع الطبقية الحادة، وقد فضحت السينما الهندية مظاهرها فى أفلام كثيرة حتى لو بالغت قليلا، مثل فساد السياسيين والسلطة التنفيذية فى درجاتها المختلفة، شراء الأصوات الانتخابية، دور رجال الدين فى التصويت، العادات والتقاليد القديمة، بطء التقاضي، الاغتصاب والتحرش بالنساء، الدروس الخصوصية، العشوائيات..
ومن هنا يمكن أن نفهم لماذا أصيبت الديمقراطية بفيروس التراجع فى الهند؟.وإذا كان الدكتور ميلان قد رصد بعض مظاهر التراجع، لكن تظل الأسباب كامنة فى الثقافة، فى فهم الناس للحياة وأساليب التعامل معها، فكيف لإنسان جاهل أو محدود التفكير أو شديد الفقر أن يكون ديمقراطيا ويختار من يمثله فى البرلمان أو فى رئاسة الوزارة اختيارا يستند إلى العقل والحسابات والمصالح. ربما ما حدث لأستاذ الجيل أحمد لطفى السيد فى الانتخابات البرلمانية المصرية عام ١٩١٣ يفسر لنا وجها من أسباب انتكاسة الديمقراطية فى الهند، وكان أمامه عبد العزيز سليط مرشحا مغمورا، فاستغل سليط جهل الناس وقال لهم فى دعاياته إن أحمد لطفى السيد يدعو للديمقراطية، وهى تعنى الإباحية والدعارة والكفر، وزواج المرأة بأربعة رجال، وإذا سألتموه لن ينكر، وفعلا وفى مؤتمر انتخابى سأله أحد الحضور: أنت ديمقراطى يا باشا؟، فرد لطفى السيد: ديمقراطى وأفتخر، فصرخ فيه: أعوذ بالله..وانفض الناس من حوله وسقط فى الانتخابات سقوطا مروعا. قطعا الديمقراطية أكبر من مجرد صندوق انتخابات.
لمزيد من مقالات نبيـل عمــر رابط دائم: