الله يرحم زمان .. ومدارس زمان عنوان هذا التحقيق .. عبارة قالها لى رب أسرة مصرية من أسر تلك الطبقة الوسطى التى خرجنا كلنا من تحت عباءتها..
وأعنى بها تلك الطبقة المتنورة التى أدارت ومازالت تدير عجلة النور والتنوير فى بلادنا من أيام جدنا المعلم الاول الذى اسمه: رفاعة رافع الطهطاوى ومرورا بعمنا وتاج راسنا طه حسين.. فتحت عباءتها خرج جيل المتعلمين المتنورين فى بلدنا.. وكل أصحاب الشهادات العليا.. والذين كافحوا طويلا وكثيرا وسهروا الليالى على ضوء لمبة جاز نمرة عشرة كما فعلت أنا وفعل جيلى كله... وكل من حمل شمعة النوروالتنوير فى بلدنا، وحتى كتابة هذه السطور.
ومازلت أذكر بكل فخر غرفتى فى بيت العائلة السعدنية فى القناطر الخيرية التى شهدت سهراتى حتى آذان الفجر أراجع دروسى على ضوء لمبة نمرة عشرة تضاء بالجاز.. لأن الحى الذى كنت أسكن فيه أيامها لم تكن الكهرباء قد دخلت إليه بعد.
ولم أكن وحدى الذى فعل.. بل كان الى جوارى فى شارعنا الذى اسمه: نهضة مصر.. يسكن عشرات من أمثالى فتية وفتيات. كلهم وكلهن ماشاء الله تلمع أسماؤهم وأسماؤهن فى قائمة الأوائل فى كليات الطب والهندسة والصيدلة والحقوق والتجارة والآداب والفنون والاعلام أيضا.
والأخيرة كنت أنا واحدا منهم.. وكل جيلى والحمد لله هم وهن من أوائل من جلس على كرسى القيادة.. فى كل ركن وكل مكان.. فى بلدنا..
بل ان منهم ومنهن من تولى وتولت كرسى الوزارة نفسها.. وليس هذا مكان ذكر أسماء.. ولكن لو ذكرناها لصفق لنا الجميع!
ويكفى أن خط القناطر الخيرية الذى تخرجت أنا منه بداية من مدينة القناطر وقليوب وشبرا.. وكل القرى المحيطة بها.. قدموا لمصر فى كل مجالات الحياة من طب وصيدلة وهندسة وتجارة وآداب وحقوق وصحافة وتليفزيون كمان.. وهم يشكلون طابورا طويلا فتية وفتيانا يشار إليهم بالبنان الآن .. كما يقولون.. ومازالوا يديرون بكل فخر واعتزاز دولاب الحياة من علم وأدب وفن وقانون وأمن وإدارة ما يطاول هرم عمنا خوفو نفسه!
ويكفى أن أقول إن صديقنا العزيز قطب السياسة العربية وأمين جامعة الدول العربية عمرو موسى واحد من أبناء القناطر الخيرية!
..............
..............
نعود إلى ما قاله لى رب هذه الأسرة المصرية وهو طبيب مشهور الآن.. رجانى ألا أذكر اسمه.. وهو للعلم كان زميل دراسة معى من الابتدائى والثانوى والجامعة كمان.. ماذا قال لى ياترى؟
لقد قال: لقد جمعنا حب الوطن ومساعدة الجار كما علمنا آباؤنا الذين خرجوا من عباءة الضمير المصرى الصاحى اليقظ الذى تعلمناه بداية من الكتاتيب زمان التى حفظنا فيها آيات الذكر الحكيم. وفى مدارسنا أيام أن كان لدينا مدارس ومدرسون ومناهج حقيقية ننجح فيها ونرسب وكلها تدعو إلى الحق والخير والفضيلة والجمال..
والآن ياعزيزى لم يعد لدينا مدارس حقيقية مثل تلك التى تعلمنا فيها مبادئ الحق والخير والجمال.. وحفظنا آيات القرآن الكريم.. ووضعنا رسول الله وصحابته أمامنا نورا لنا ونبراسا.
لكن فى ظل عدم وجود مدارس حقيقية ومناهج تعليمية وتربوية ترفع قامة الإنسان المصرى.. ومدرسون يعلموننا أصول الدين وقواعد اللغة العربية ودروسا فى حب الوطن نتعلمها من تاريخنا العظيم مصريا كان أو عربيا..
ولكننا الآن ـ يقول زميلنا العزيز ـ لم نعد نعرف راسنا من رجلينا..
أسأله أنا: إزاى يا مولانا؟
قال: حاول حضرتك مرة كدة تعدى على مدرسة أى مدرسة من مدارس وزارة التعليم.. وشوف واتفرج هل بينها حقيقى مدرسة من بتوع زمان؟
أسأله: إزاى يعنى؟
قال: يعنى مدرسة فيها جدول حصص ومدرس يشرح وتلاميذ يروحوا الصبح المدرسة ويروحوا بيوتهم بعد الظهر + منهج تعليمى وجدول معروف فيه لغة عربية + لغة أجنبية + تاريخ + جغرافيا + علوم وكيمياء وطبيعة + العاب كمان ورسم ومزيكة زى اللى حضرتك أخذتها واتعلمتها فى مدارس زمان..
وزمان دى لاتعود إلى زمان قوى.. دى يادوب مشوار ليس بعيدا.. على أيامك وأيامى!
قلت له: لقد تذكرت الآن ما قاله لى يوما سائقى الخاص.. عندما ذهب مع ابنته التى وصلت إلى مرحلة الثانوية العامة آخر سنة إلى المدرسة فى أول يوم دراسة.. فإذا بهم يقولون له: ابنتك مالهاش فصل ولا دروس ولا مدرسين السنة دى.. تذاكر المنهج كله فى البيت. وآخر السنة تخش الامتحان. مع بتوع فصلها.. يعنى فى اللجنة العامة لتلاميذ شهادة الثانوية العامة!
راح يسأل غير مصدق ما سمعه: يعنى البنت ما تروحش المدرسة خالص؟
قالوا له: أيوه .. كلامنا واضح. تيجى بس على الامتحان بعد ماتذاكر المقرر اللى عليها السنة دى.. مادة . مادة.. وتشترى الكتب والملازم بتاعة المواد اللى عليها من المكتبة.. ومعاك كشف بالقائمة!
والذى نخشاه حقا.. انه لم يعد لدينا مدارس حقيقية ذات أسوار وأجراس وملاعب كرة قدم وسلة وبنج بونج ومدرسون وحصص وغياب وحضور فى اللغة والدين والتاريخ والجغرافيا..والعلوم والرسم والموسيقى..
ولم يعد لدينا فسحة فى الظهيرة ولا مطعم يتناول فيه التلاميذ وجبات الطعام كما كنا نفعل فى مدرسة القناطر الخيرية الثانوية.
وأنا شخصيا وللحق وللتاريخ.. تذوقت مع زملائى وأقرانى فى مطعم مدرسة القناطر الخيرية الثانوية أشهى الوجبات من فاصوليا ولوبيا وأرز ولحم بلدى على يد طباخين «أسطوات».. ولا أجدع ست بيت + الموز والبرتقال + السندوتشات وأكياس السودانى أيام الاثنين والخميس الذى نترك فيه المدرسة بدرى بعد آذان الظهر.. يعنى نصف يوم..!
..........................
..........................
وأنا شخصيا عندما كنت تلميذا عرفت عيونى وعقلى وقلبى عالم مجلة: «الناشيونال جيوجرافيك» الأمريكية الشهيرة.. لأول مرة داخل مكتبة مدرسة القناطر الخيرية الثانوية.. وقرأت أعدادها كاملة فى سنوات دراستى.. واستعرتها من الزغبى أفندى أمين المكتبة لأقرأها فى منزلى ليالى طوالا.. وعرفت منها وأنا بعد غض صغير أن مصر هى سيدة العالم القديم.. وعرفت عمنا أخناتون داعيا للحق والخير والجمال.. قبل بزوغ شمس أنبياء الأديان الثلاثة: اليهودية + المسيحية + الاسلام.. وأذكر أننى كتبت أيامها وأنا فى ثانية ثانوى قصة من الخيال العلمى عن لقاء جمع بين سيدنا محمد عليه السلام وسيدنا عيسى عليه السلام وسيدنا موسى عليه السلام فى السماوات العليا.. ونلت عنها أيامها جائزة وزارة المعارف فى الأدب العربى.. وتسلمت الجائزة فى احتفال كبير فى مبنى وزارة التعليم فى شارع قصر العينى حضره وزير التعليم يومها الذى سلمنى الجائزة.
أسمعكم تسألون: وكم كانت قيمة الجائزة؟
وجوابى: مجموعة من كنوز كتب الأدب العربى لابن خلدون وابن الرومى وابن عبدربه.. ومقامات الحريرى والأيام لطه حسين وللأسف لم أتسلمها أنا أيامها.. ولكن الذى تسلمها مدرس فى المدرسة كان أول اسم له فى بطاقته الشخصية عزت فأخذها هو عنوة واقتدارا..
ولكنه فى نهاية العام استيقظ ضميره فأرسلها لى.. ليس كلها ولكن ما بقى منها!
أسمعكم تسألون: وهل قرأتها كلها؟
وجوابى: نعم وأكثر من مرة لكل كنز من هذه الكنوز الفكرية التى لا تتكرر!
.................
.................
هكذا تعلمت أيها السادة وهكذا قرأت.. وهؤلاء هم المدرسين الذين تعلمت على أيديهم.. وأولهم بالطبع عمنا الشاعر والذى اسمه عبدالعليم عيسى مدرس اللغة العربية فى المرحلة الثانوية.. فى مدرسة القناطر الخيرية وكان شاعرا مشهورا فى أيامها وله عمود يومي فى جريدة الجمهورية بعنوان «أمشاج».
والآن أسمعكم ترددون وأنا أردد معكم : الله يرحم أيام زمان.. وأيام مدارس أيام زمان.. وناس أيام زمان..
الله يرحم زمان.. ومدارس أيام زمان!
..........................
..........................
عندما صاح أخى صلاح:
أنا أخوك مش قائد الهكسوس!
على اية حال .. ليس هذا حديثا عنى أنا وعن أخى صلاح .. ولكنه حديث عن الفنون فى مدارس زمان.. ولا أدرى هل هذا موجود الآن.. أم أنه هو الآخر خرج ولم يعد..؟
الحكاية ببساطة.. انه على أيامى فى المدرسة... كان لدينا إلى جانب المكتبة التى كانت تشترى لنا مجلات مثل الناشيونال جيوجرافيك الأمريكية الشهيرة.. لكى يقرأها كل التلاميذ فى الابتدائى والثانوى... قبل ظهور المرحلة الاعدادية..
وكانت لدينا إلى جانب المكتبة العظيمة.. فرق من التلاميذ فى التمثيل والموسيقى والرسم وفى كل الالعاب.. كرة قدم + كرة سلة + بينج بونج + كرة الطائرة + العاب قوى مثل جرى ووثب عال + دروس فى السباحة.
ومع كل هذا فرق من الموسيقى تمتلك بيانو فخم + كمان + عود + آلات إيقاع + فريق تمثيل تقدم مسرحيات يوسف وهبى ونجيب الريحانى وسليمان نجيب وعلى الكسار كمان + فريق الرسم ومدرسة الاستاذ عزيز على ما أذكر .. ومازالت لوحاتى أنا ولوحة اخى صلاح معلقة على جدران ممرات مدرسة شبين الكوم الأميرية وقد شاهدتها فى آخر زيارة لى إلى المدرسة قبل نحو عشرة أعوام!
وفى مدرسة القناطر الخيرية كنت أنا مندوب مجلة «على بابا» للصغار والكبار ومازال كارنيه المجلة فى محفظتى حتى كتابة هذه السطور.
وكانت تلك بدايتى مع مجلات الاطفال التى توجتها برئاسة تحرير أول مجلة أطفال يصدرها «الأهرام» كل خميس اسمها «علاء الدين» والتى مازالت تصدر وتباع فى الأسواق حتى كتابة هذه السطور.. وقد تركتها وهى توزع 76 ألف نسخة اسبوعيا وهو أعلى رقم توزيع لمجلة أطفال فى العالم العربى كله!
..........................
..........................
واسمحو لى أن أحكى لكم حكايتى مع أخى صلاح عندما كنا نقدم مسرحية البطل احمس محرر مصر.. وكنت أنا أقوم بدور أحمس، بينما أخى صلاح كان يقوم بدور حاتذار قائد الهكسوس .. وفى المشهد الأخير عندما هممت بطعنه بالسيف صاح فى وجهى: حاسب يا عزت .. دا أنا أخوك مش قائد الهكسوس!
وضجت القاعة ليلتها بالتصفيق الحاد!
كانت أيام!!{
Email:
[email protected]لمزيد من مقالات عزت السعدنى رابط دائم: