انتبه إلى حدوتتك المفضلة، التى تحتفظ بتفاصيلها منذ الطفولة، وتستطيع ان ترويها لغيرك بسهولة. هذه الحدوتة جزء مهم من معتقدك ومؤشر لنوع افكارك ومفتاح شخصيتك. حدوتة كل يوم قبل 50 عاما، كانت تطعم مستمعيها الحكمة وتسقينا الإحساس بالجمال والرحمة، وتفتح أبواب الحجرات المغلقة وتصل بمن يسمعها إلى البلاد البعيدة، وتزرع فى القلب الشجاعة والأمل. ولكن هل من أطفال تسمع الحواديت فى هذا الزمان؟ زمن يكتشف فيه الطفل كل ما حوله عبر شاشات الموبايل وأجهزة الكمبيوتر اللوحى والتطبيقات المختلفة.
وزاد تعقيد حياة الطفل أخيرا لانقطاعه عن المدرسة، ومختلف أشكال الحياة العامة والأنشطة، بسبب جائحة كورونا. وحول ضيق افق زمن « كورونا»، يحذر الكاتب الكبير يعقوب الشارونى، أحد أهم وأشهر كتاب الحواديت وقصص الأطفال فى مصر والعالم: «الطفل لا يذهب للمدرسة كى يتعلم من الكتب والمنهج الدراسى ويجتاز الامتحان بنجاح. هذا ليس أكثر من ثلث المهمة ، لكن الثلثين وأكثر يتعلق بمواجهة الحياة والناس.فالطفل فى المدرسة يكتسب خبرات التعامل والتفكير الأساسية. يتعلم معنى الرفض والقبول. وكيفية وضع نفسه مكان الآخر، كما أن اللعب يكسبه تدريجيا مهارات التفاوض والتواصل البناء مع الآخر».
وأشار الشارونى إلى تجربة رائدة تبرهن على صدق منطقه، والمقصود هنا تجربة جمعية أهلية تعمدت دمج الأطفال من أصحاب الأعاقة بالفصول المدرسية للأطفال الأصحاء، ما طور من مهارات التواصل لدى الجانبين، كما تحقق تطور واضح فى الأداء الأكاديمى.
وفى تحليله لتأثير زمن كورونا، يوضح الشارونى: «بسبب عزلة كورونا، يفقد الطفل مصادر مهمة جدا لاكتساب الخبرات ومهارات التواصل والتعاون، ما قد يكسبه قدرا كبيرا من الأنانية ويحرمه من اكتشاف كثير من مواهبه». ويشير الكاتب الكبير إلى القاعدة العلمية التى تفيد بأن الطفل فى مرحلة التعليم الابتدائى لا يمكنه الاستقرار فى مكانه أكثر من 25 دقيقة متواصلة.
إذن هو مأزق للطفل تحديدا فى «زمن كورونا»، والعالم فى حاجة لمزيد من الدراسات وكثير من الملاحظة لقياس مدى تأثير المتغيرات الأخيرة على الأطفال. وإن كان الحل المتاح حاليا فى تشجيع الوالدين لمواهب وخيال الأطفال، بتنمية حب القراءة وسماع الحواديت والمهارات اليدوية المختلفة. وذلك لحين السماح بعودة «الاختلاط» المؤجل حاليا.
إذن جانب من الحل يكمن بين حروف «الحواديت»، أجاب الشارونى بـ «نعم» قاطعة، وأضاف موضحا: «لقد اكتشف العالم المعقد إمكان حل مشاكله الكبيرة بالإصغاء لأفكار الاطفال الصغار». فحواديت الأطفال بها تبسيط جميل وجذاب للحياة وإجابات لأسئلة صعبة.
وبسؤال الشارونى عما إذا كان الفقر يؤثر على مهارة خلق الأفكار الجميلة، أجاب مؤكدا: «أبدا، الفقر لم يمنع سعادة الأطفال وهم يلعبون الكرة الشراب، ونقص الإمكانات لا يمنع مثلا نشاط الإذاعة المدرسية، ولا يمنع من تعليق شبكات كرة السلة على عمدان الإنارة، كى نشجع النشاط الرياضى. لماذا لا نفعل مثل روسيا ونقيم مسابقات قومية للشطرنج؟ الشعب المصرى محتاج يلعب «شطرنج»، كى يتعلم حساب العواقب». ويضيف الشارونى: «الدعم المالى، ليس كل شىء فى التربية والتعليم واكتشاف المواهب، الدعم المعنوى أخطر وأهم».
ويكمل رائد أدب الأطفال: «فى طفولتى، كان عندى استاذا للغة العربية اسمه الأستاذ عبدالفتاح رحمة الله عليه، شاهدنى مرة وهو يشرح الدرس منشغلا عنه، وكنت فى الصف الأول الابتدائى، اقترب من مكان جلوسى وأوقفنى، ونهرنى متسائلا: (حضرتك سايب الدرس ومشغول فى إيه؟). استجمعت شجاعتى وقلت له (باكتب رواية). فرد ساخرا (طب يا سيدى تعالى اطلع وسمعنا الرواية بتاعتك). وفعلا امسكت كراسى وبدأت فى القراءة. وإذا بالاستاذ الغاضب المخيف، يقترب، ويطبطب على كتفى فى حنان، قائلا: ( اقعد يا بنى وأكمل ما كتبت، ربنا يفتح عليك) ! كان هذا الاعتراف المبكر من أستاذ المدرسة أهم وأغلى جائزة حصلت عليها فى حياتى».
وبسؤاله حول ضرورة إعطاء الحواديت الأولوية للقيم على حساب الماديات؟ ابتسم الشارونى قائلا: «هى مسألة منهج فى التفكير، بعض الناس وبعض الدول مثل أمريكا، تقيس النجاح بمقياس (أنا كسبت كام النهاردة؟) وآخرون مثل اليابان يقيسون النجاح بمقياس (أنا أنتجت إيه النهاردة ؟).أنا تفكيرى يابانى، مقياسى بحجم ما كتبته للأطفال، وبحجم الأفكار التى قدمتها كى تصبح الحياة أفضل فى مصر، هذه رسالتى الحقيقية، ومن أجلها أعمل وأسافر وأطور نفسى وأدواتى يوميا».
ولعل ذلك اليقين والإيمان ما حقق لأعمال الشارونى نجاحا فائقا ودفع بحواديته إلى الترجمة والتجول حول العالم. يحكى الشارونى: «دعونى قبل سنوات لزيارة مدرسة فى نيويورك، وجدت الأطفال هناك قد حولوا إحدى قصصى، لرسوم وموسيقى وعمل تمثيلى. هكذا يمكن التعامل مع حواديت الأطفال لتشجيعهم على الإبداع».
بعد نصف قرن من الكتابة للأطفال، كيف يرى الشارونى طبيعة طريق النجاح، يجيب بشكل واضح : «احترموا الطفل ولو كان جنينا فى بطن أمه،لا تستهينوا بعقله أو مشاعره أبدا، وقدموا له المتعة قبل الفكرة، فهو لن يستجيب لأى نصيحة، إلا إذا تلقاها بشكل جذاب ومسل، وهذا دور الفن والحدوتة».
لكن هذا كله يتطلب أولا إعدادا جيدا لصائغ الحواديت، الذى يجب أن يكون قارئا نهما، ويجيد التواصل مع الناس، ويهتم بكل مجال، فهو يختار بعناية المعلومات التى يمكنه توظيفها لدعم تطوير الطفل. فحتما كانت فترة «العزل الصحى» فرصة لمزيد من الاطلاع بالنسبة لكاتب الحواديت الشارونى.
يوضح الشارونى: «ساعدتنى هذه الفترة على القراءة،لكنها لم تساند رغبتى فى الكتابة.العزلة فى البيت شهورا متوالية لا تجعل لرجل مثلى فى التسعين مزاجا جيدا. لكن سنى الكبيرة تجعلنى أحس بمسئولية كبيرة وأن أسعى لنقل خبراتى فى التربية وأدب الطفل».
رابط دائم: