كان الخلط بين العلمانية واللادينية، ولايزال، أحد عوامل العجز عن حفر مجرى للتقدم والنهضة فى العالم العربى. بدأ هذا الخلط منذ أواخر القرن التاسع عشر، عندما شرع مثقفون عرب فى التفاعل مع بعض الأفكار الغربية انطلاقًا من اقتناع بأن هذا التفاعل هو السبيل إلى التقدم. وفضلا عن تشويه فكرة العلمانية من جانب خصومها، سواء بقصد أو بغير علم، ساهم بعض غُلاة العلمانيين فى تكريس صورة سلبية رُسمت لها، وبدا فيها ما فُهم بوصفه رفضًا أو عداء للأديان. ولم يتيسر تصحيح هذا الفهم، ومن ثم تغيير الصورة السلبية للعلمانية، وتمييزها عن اللادينية، لأسباب فى مقدمتها اثنان, هما الافتقار إلى ثقافة الحوار الموضوعى الجاد, وضآلة الاهتمام بتاريخ الأفكار. فالتاريخ عند العرب أشخاص وأحداث فى المقام الأول. ولهذا لا يعرف إلا أقل القليل أن أهم رواد العلمانية فى مصر كانوا مؤمنين، وأن بعضهم كانوا متدينين. لم يكن العقل الذى آمنوا بقيمته السامية يتناقض عندهم مع الدين. وحتى من تبنوا رؤى مُغالية فى التعبير عن أهمية العلمانية لم يدعوا إلى إنهاء دور الدين فى المجتمع. وعندما عارض د. طه حسين النص على أن الإسلام دين الدولة فى دستور 1923، لم يكن موقفه ذاك ضد الدين، بل خشية أن يصبح هذا النص (مصدر فُرقة بين المسلمين أنفسهم، لأنهم لا يمكن أن يفهموه على وجه واحد). وقد وصف د. عبدالوهاب المسيرى هذا الاتجاه بأنه يعبر عن علمانية جزئية ميزَّها عما سماه علمانية شاملة فى عدد من أعماله. وفى ثنايا هذا التمييز، رأى المسيرى أن كاتب السطور أحد من يتبنون اتجاه العلمانية الجزئية (كتابه: دراسات معرفية فى الحداثة الغربية، مكتبة الشروق الدولية، 2006، ص62). ولكن عندما نتأمل الأساس الذى أقام عليه هذا التمييز، ربما نجده أقرب إلى تفرقة بين العلمانية واللادينية. فالاتجاه الغالب فى تاريخ العلمانية يندرج فى إطار ما اسماها علمانية جزئية، ليس فى العالم العربى فقط، بل فى الغرب أيضًا. فلم تكن العلمانية فى أصلها الغربى منبتة الصلة بالدين0 وهو ما نبقى معه فى الغد.
لمزيد من مقالات د. وحيد عبدالمجيد رابط دائم: