رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

جـنة المـأوى

محمد سيد الخلق إماما.. محمد صلى اللـه عليه وسلم فى المسجد الأقصى يصلى بإبراهيم الخليل وموسى الكليم وعيسى المسيح ونفر من الأنبياء اجتمعوا بأمر من اللـه له.. لخاتم الأنبياء، إمامة هى الإقرار المبين بأن الإسلام كلمة اللـه الأخيرة إلى خلقه، أخذت تمامها على يد محمد بعد أن بدأها الرسل الأولون.. الإسراء حق.. جميع الحدود تتداعى أمام بصيرة محمد.. اجتمع الكون كله فى روحه فوعاه منذ أزله إلى أبده.. اجتماع ضمت الصلاة فيه محمدًا والنبيين الصالحين حملة الهداية لهذه الأرض..

أسرى بك اللـه ليلا إلى ملائكه

والرسل فى المسجد الأقصى على قدم

لمّا خطرت بهم التفوا بسيّدهم

كالشهب بالبدر أو كالجند بالعلم

صلى وراءك منهم كل ذى خطر

ومن يفز بحبيب اللـه يأتمم

إن الكشف عن منزلة محمد صلى اللـه عليه وسلم ودينه، ليس مدحًا فى سياق مدح سيد الخلق، بل هو بيان حقيقة مقررة فى عالم الهداية منذ تولت السماء إرشاد الأرض، ولكنه هنا جاء فى الوقت المناسب، فى عام الحزن بعد وفاة أم المؤمنين خديجة رضى اللـه عنها التى بنى اللـه لها قصرًا فى الجنة، ورحيل عمه أبى طالب الذى كان ملاذ الحماية والذود عنه.. لقد مضى رسول اللـه صلى اللـه عليه وسلم على نهجه القويم، ينذر بالوحى كل من يلقي، ويخوض ــ بدعوته ــ المجامع، ويغشى المواسم، ويتبع الحجيج فى منازلهم، ويسير بقدميه إلى أسواق «عكاظ» و«مجنة» و«ذى المجاز» داعياً الناس إلى نبذ الأوثان، والاستماع إلى هدى القرآن، وكان يسأل عن منازل القبائل قبيلة قبيلة، ويعرض عليهم نفسه ليؤمنوا به ويتابعوه.

وكان عمه أبولهب يمشى وراءه ويقول: لا تطيعوه فإنه صابئ وكذاب؟ فيكون جواب القبائل على رسول اللـه: أسرتك وعشيرتك أعلم بك! ثم يردونه أقبح الرد.

وكان الرجل يجيء من الآفاق البعيدة فيزوده قومه بهذه الوصية: «احذر غلام قريش.. لا يفتنك»!! وكان آخر العهد بمشاق الدعوة طرد أهل الطائف له.. إن هوانه على الناس منذ دعاهم إلى اللـه جعله يجأر إلى رب الناس شاكياً.. راجياً: «اللـهم إليك أشكو ضعف قوتى وقلة حيلتي، وهوانى على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك على غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هى أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذى أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بى غضبك، أو يحل عليّ سخطك، لك العُتبى حتى ترضي، ولا حول ولا قوة إلا بك..».

ويأتى تطمين اللـه له، ومن نعمائه عليه أن يهيئ له رحلة الإسراء والمعراج السماوية لتمس فؤاده المتشوق للراحة، وليشعر أنه بعين اللـه قد قام يوحده ويعبده، ويعلم البشر توحيده وعبادته، لقد كان يقول «إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي» وأتت ليلة الإسراء ليعلم أن حظه من رضوان اللـه كبير، وأن مكانته بين المصطفين الأخيار فى المقدمة.. إن الإسراء والمعراج تقعان فى تاريخهما فى منتصف فترة الرسالة التى مكثت ثلاثة وعشرين عاما، وبذلك كانت بمثابة العلاج الذى مسح متاعب الماضى ووضع بذور النجاح للمستقبل.. إن مشاهدة جانب من آيات اللـه فى ملكوته له أثره فى معرفة النبى بمصير الكافرين وضآلة مكانتهم، وقد عرف محمد فى رحلته الأثيرة أن رسالته ستعم الأرض لتنتزع الوديان الخصبة فى النيل والفرات من مجوسية الفرس وقمع الروم وأن أهل هذه الأودية سيحملون راية الإسلام جيلا بعد جيل.

رحلة الإسراء التى فصّلتها سورة الإسراء كانت من المسجد الحرام فى مكة المكرمة إلى المسجد الأقصى فى القدس الشريف مرورًا بجبل الطور فى سيناء حيث هبط الحبيب بدابة البراق ومعه أمين الوحى جبريل على قمة جبل الطور بالوادى المقدس طوى الذى كان يومًا ميقاتًا لنبى اللـه موسى عليه السلام مع رب العزة: «سبحان الذى أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذى باركنا حوله لنُريه من آياتنا إنه هو السميع البصير». أما رحلة المعراج فقد فصّلتها سورة النجم «والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحى يُوحى علمه شديد القوى ذو مِرة فاستوى وهو بالأفق الأعلى ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى ما كذب الفؤاد ما رأى أفتمارونه على ما يرى ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى ما زاغ البصر وما طغى لقد رأى من آيات ربه الكبري».

جبت السماوات أو ما فوقهن بهم

على منورة درية اللجم

وبت ترقى إلى أن نلت منزلة

من قاب قوسين لم تدرك ولم ترم

حتى بلغت سماء لا يُطار بها

على جناح ولا يسعى على قدم

وقيل كل نبى عند رتبته

ويا محمد هذا العرش فاستلم

خطّطت للدين والدنيا علومهما

يا قارئ اللوح بل يا لامس القلم

يارب أحسنت بدء المسلمين به

فتمم الفضل وامنح حُسن مختتم

 

سـيرة وجـــع

واللـه يا ابنى يا محمد قلّبت عليّ المواجع، أو بعبارة أجدى وأصح صحيت كل آلام البدن والنفس.. أيقظت غول الفراق، وحطمت جدران النسيان وفتحت أدراج الذكريات لترتع من جديد وكأنها بنت امبارح.. سحبت من تحت راسى وسادة الوسن والنوم والاتكال والتراخى والاستسلام والشعور المزيف بالأمان، والفكر المحصور داخل مربع الأقدام ودايرة العيلة ومنظر الشباك.. أخذتنى من غير ما تقصد لتزرعنى فى نار جحيمك، وسحبتنى من غير ما تقصد لأساير مشوارك فوق الشوك الذى أدماك، وخلعت قلبى من غير ما تقصد فى تجوالى الحزين ما بين سطور مرثيتك.. لم يهزنى ويأخذ بناصية مشاعرى ويعصرنى ويخرج من خلجات صدرى الزفرات مثل ذلك الكتاب السيرة والوجع رواية «الزينة» بقلم الكاتب المتدفق محمد الباز الذى من غير ما يقصد انسدلت مشاعره على جميع الأمهات وجرجرت معها جميع الذكريات ليواكب صدورها إرهاصات عيد الأم نبع الحنان والعطاء.

الباز فى لحظات صدق مشاعره كتب سيرة موجعة وويل من القلم وما يسطرون.. قلم تساءلت معه، وتجولت معه، وأنكرت معه ليحتوينى معه الشعور الطاغى باليُتم رغم أنى الآن أكبر من أمى عندما رحلت عني!!

لماذا لا يستأذننا من نحبهم فى الانصراف؟ إنهم يرحلون لتشغلنا علامات الاستفهام، وتحيرنا علامات التعجب، ونبحث عن نقطة لنضعها فى نهاية جملة حياتهم فلا نجد.. كانت الأم صارمة: لا فراشة ولا كراسى ولا ناس توزع قهوة ولا مقرئ.. اللى هتصرفوه طلعوه للـه.. الغلابة أولي.. حملها من حجرتها إلى مستقرها الأخير، حاول من حاول أن يحملها عنه، رفض بإصرار، كان يمسك بطرف ثوبها حية فماذا يجعله يتركه وهى ميتة.. ينظر حوله يحصى من حضر ومن غاب.. من يجامله الآن هو من سيعرفه فقط… دخلنا بها مسجد البحر الكبير، انشغلت بها عن الجميع، كنت معها وحدى أنا وهى فقط كما كنا كثيرًا يجمعنا خوف غامض من شيء لا نعرفه، لكننا كنا واثقين من أننا سننتصر عليه.. هذه المرة لن ننتصر، هزمها موتها، وهزمتنى قلة حيلتي.. كل وفاة هى شهادة على فشل الطب فى العالم، لكن الأطباء لا يعترفون أبدًا بفشلهم، عندما ينجحون فهى عبقريتهم الفذّة وعندما يفشلون فهو قضاء اللـه وقدره..

الباز فى روايته لم ينظِّر كعادته سياسيًا، ولا عقّب على حدث اجتماعى له دوِّي، ولا هاجم بعنف من يخاله مخالفًا، ولا اكتفى بأنها ستكون مجرد مراجعة لما قال بدلا من الاعتذار، ولا استعرض ما حدث فى دهاليز المؤتمر والاجتماع وإخوانية استامبول وسد بلا نهضة.. صاحب «الزينة» كتب كتابه الملتهب أسى وشجنًا عن أمه.. حياتها ومماتها.. أفراحها وأتراحها. قهرها وصبرها. دينها ومعبدها. بيتها ومطرحها.. يُسرها وصبرها. ريفيتها ونباهتها. زهدها وقناعتها. حسمها وفصلها. هشاشتها وصلابتها. حبها لزوجها: صعب ومغلبنى بس طيب وابن حلال. فتحت عينى لقيته. لا عرفت راجل غيره ولاّ خلاّنى محتاجة أعرف راجل غيره. خطفنى من كل الناس. غضبه جوّاه. لا بيقسى ولا بيجرح.. صاحب البرامج ورئيس التحرير وأستاذ الصحافة والإعلام المرثية هى أولى رواياته من بعد مؤلفاته الكثيرة التى منها: «ملوك وصعاليك» و«حدائق المتعة» و«العقرب السام» الرواية مقسَّمة تبعًا للتقاليد المصرية المتوارثة: اليوم الأخير، والخميس الأول، والخميس الثاني، والخميس الثالث الذى من العادة ألا تُقام فيه مراسم عزاء كى يسترد الأهل بعضًا من الهدوء استعدادًا لقدوم الأربعين مجدد الأتراح بلا أفراح..

فى كل ما تعنيه الأم كتب الابن عنه. فى السراّء والضراّء لم ينس من الأمر شيئًا... فى مسألة البعد والقرب والاحتواء والعتاب الشفيف قطع المسافة بينها رايح جاي.. كتب عن المداخل والمخارج والإطار وذوى القربى ووزيرة اقتصاد الدار التى تصنع إفطارًا للملوك فى رمضان من طبق الباذنجان المخلل.. فى سيرة الوجع رأى صاحب قلمها أن الذين يعتقدون أن الإجابات مريحة، لا يعرفون أن هناك أسئلة عدم الإجابة عليها يريح أكثر.. يكرمون الميت بالإسراع فى دفنه، فمن يكرم الأحياء بإبقاء موتاهم إلى جوارهم؟! عشمها فى الجنة كان كبيرا. لخصت لى الموضوع كله بكلمة واحدة: الجنة راحة. لم تكن النار تزعجها، كانت على ثقة تامة بأن اللـه لن يبخل على أمثالها بجنته: ماهو مش هيبقى وجع قلب دنيا وآخرة يا ابني.. لم تمت عندما دفنتها بيدي، كيف لها أن تموت وقد غافلتْ الجميع وخرجت من قبرها بقلبها ووضعته إلى جوار قلبي.. لم تشك من شيء، رغم أنه كان ينقصها كل شيء.. كانت تقول بالنظرات ما لا تسعفها به الكلمات. حبست دموعًا كادت أن تغلبها: أنا مش بخيلة، أنا فقيرة، الفقر يا ابنى مش إنه مايكونش معاك فلوس، الفقر إنك تخاف تصرف الفلوس اللى معاك لأنك عارف إن مفيش غيرها جيّ.. الحاجة اللى ماتجيش فى وقتها ملهاش عازة.. صورة واحدة تجمعنا، تقفين شامخة كما كنت دائمًا، أميل بكتفى عليك وكأننى أبحث عن سند، لكن حتى هذه الصورة لا أجدها.. لم تكن تجيد القراءة أو الكتابة، لكنها كانت تحب أوراقى وكتبي..

قالها الرسول صلى اللـه عليه وسلم للسيدة عائشة: إن ضغطة القبر على المؤمن كالأم الشفيقة يشكو إليها ابنها الصداع فتغمز رأسه غمزًا رفيقًا.. الضغطة مهما كانت وطأتها عليك يا أمى لن تكون أكثر قسوة من ضمّات الحياة لك، تلك التى اعتصرتك أكثر من مرة لكنك كنت تخرجين منها جميعا منتصرة.. ماذا فعلت يا أمى فى كتمة القبر وزنقته وجوّه الزامِم؟! فى عز الصيف كانت لا تتخلى عن غطائها، كانت تلف نفسها بملاءة خفيفة: باحب أبقى مستورة دايما. هل كان كفنها كافيًا؟! وما الذى تفعله عندما يُبلى الكفن ويتخلى عنها آخر ما خرجت به من الدنيا؟.. أنت التى لم تمارسى حقك فى الغضب أبدًا، كتمت كل شيء فى قلبك حتى دفع جسدك كله الثمن. هل عرفت الآن أن من يموت يتحرر من ضعفه، من عجزه، من ألمه، من مرضه، من قلة حيلته؟.. الحياة استعباد، والموت حرية.


يسأل الملتاع نفسه فيما إذا كان قد قبّل يدى الراحلة على كل تلك البهجة التى كانت توزعها عليهم أم نسى فى زحمة الحياة؟ لماذا لا نُشعر من يُسعدوننا بأنهم يصنعون فى حياتنا المعجزات فى حياتهم؟ لماذا لا نبحث عنهم قبل رحيلهم لنقول لهم كلمة واحدة؟ مؤكد أنها ستكون فارقة لو قلناها لهم وهم معنا؟ قالت لي: خايفة تنشغل عننا.. إنت عارف البير وغطاه، لو غفلت عننا ربنا يعلم اللى هيحصل.. حاول أبى أن يخفف كـلامها لكنها أصرّت: أنا هاخد العهد عليك قدام أبوك لا تنسى ولا تقسي.. سامحتنى فى كل شيء إلا فى تأخرى عليها. تجاوزت عن كل عثراتى إلا أن أقول لها: أنا مشغول ومش قادر أنزل للبلد.. كان دعاؤها هو ملاذى الأول والأخير: ربنا يجعل فى وشك جوهرة، وفى لسانك سكرة ومايحكمش عليك ظالم.. معه وحده كانت تفضفض، أمامه.. وحده كانت لا تخجل من كشف ضعفها وقصر يدها وقلة رزقها وقهرة قلبها وقلة حيلتها، وبين يديه كانت تبكى بحرقة على ما فاتها وفاتهم... يحلم بها فى ساحة سيدنا الحسين من بين طوفان البشر بثوبها الأخضر.. تأتيه سعيدة عندما يكون سعيدًا، وتحضر غاضبة عندما يكون غاضبًا، وتغادره دون كلمة واحدة عندما يكون يائسًا ومحبطًا ومشتتًا، وتأنس إليه عندما يريدها على أرض الإلف والإيلاف.. لماذا لا نمتلك القدرة على تسجيل الأحلام التى تحاصرنا فى مناماتنا ثم نعيد مشاهدتها بعد أن تنقضى لنسترجع لحظاتنا مع من يأتوننا دون استئذان ويغادروننا دون مقدمات؟! لماذا يحدد زوار الحلم وحدهم المكان الذى يظهرون فيه؟ ولماذا لا يتحدثون إلا بما يريدون؟ ولماذا يكتفون أحيانًا بنظرات لها ألف معنى دون أن يمنحونا فرصة سؤالهم عمّا يعنون؟.. كانت تعرف ما بى دون أن أنطق، تكشفنى من نظراتي، ولما أراوغها تقسم: وراس أبويا فى نومته أنا عارفة إن فيك اللى مكفيك.. بس أنا برضه عارفة إنك مش حتقول إلاّ لما تكون عاوز تتكلم.. و..لم ينجح أبدًا فى خداعها.

إذاعة القرآن الكريم كانت لا تتوقف فى بيتنا: القرآن فى البيت بركة. كانت تميل إلى الشيخ الطبلاوى «صوته فيه رنّة فرح» تمنيت أن أجعلها تسمعه ولو لمرة أخيرة، لكن مقرئ القرية أصرّ على أن يقرأ هو، فضاعت أمنيتى الأخيرة لها وسط رغبة الإسراع بدفن الميت من باب إكرامه، رغم أننا لو سألناها لقالت: مستعجلين على إيه؟.. خلّينى جنبكم شوية.. قالوا يصلى على الميت أقرب أهله إليه.. وهل هناك أقرب إلى روحك مني؟!.. عاتبتها مرة على أنها لا تهتم بى بما يكفي. أخذت رأسى على كتفها وربتت على ظهري: انت ابن روحى يا ولَه.. سماعها للقرآن لم يكن يحجبها عن سماع الأغاني. كانت تعتبرها نعمة من اللـه. مسكونة بأم كلثوم ورغم أنها لم تفهم كثيرًا من كلماتها فإنها كانت ترددها بصوت لا يفتقد العذوبة.. جلست إلى جوارى وكانت الست تغني: حبيبى لما يوعدنى تِبات الدنيا ضاحكة لي.. حبيب قلبى وقلبى معاه باحبه فى رضاه وجفاه.. أوريله الملام بالعين وقلبى على الرضا ناوي.. بيجرح قد ما يجرح ويعطف تانى ويداوي.. وهو بين ده وده الحب كده مش عايزه كـلام.. تنتبه وتسألني: إيه حكاية أوريه الملام بالعين وقلبى على الرضا ناوى دي؟!.. حدثتها عن الأبنودى وأغنيته التى كتبها مصورًا حالته مع أمه وغناها عمار الشريعي: أمى ولو مالت عليّا الحيطان/ أمى ولو يجرى ورايا النخل/ أمى وغيرها ماليش إنسان/ ولا مكان ولا بلد ولا أهل/ أنا الصغير يا أمي/ ياللا احضنينى وضمي/ ما انتى أمى ولو مالت عليّا الحيطان/ ولو يجرى ورانا النخل.. خرجت أمى من أسر دموعها لتضحك: حلوة أمى ولو مالت عليّا الحيطان إنما إيه حكاية النخل اللى هيجرى وراك ده!!! وما لم يخبر محمد الباز أمه به أنه عندما كان يغنى للأبنودى على لسان النديم «يا لولا دقة إيديكى ما انطرق بابي/ طول عمرى عارى البدن وانت جلبابي/ ياللى سهرتى الليالى يؤنسك صوتي/ متونسة بحس مين يا مصر فى غيابي» أخفى عليها ابنها أنه كان يرفع اسم مصر ويضع اسمها مكانها: «ياللى سهرتى الليالى يؤنسك صوتي/ متونِّسة بحس مين يا زوزو فى غيابي».

ومتى ركبتنا الأمراض بحكم التقدم فى السن فلابد من الخط الساخن مع أقرب أجزاخانة ليغدو الصيدلى فيها مستشارًا وموجهًا وضاربًا للحقن فى العضل والعرق، وقارئًا يُجيد فك نكش فراخ روشتات الأطباء، وإذا ما كان نوع المرض مرافقًا لرحلة العمر أمثال الضغط والسكر والقلب و..والخ فأقراص العلاج تغدو عديدة ومختلفة فى اللون والحجم والتوقيت وعلينا تحويشها من الأجزاخانة المِعرفة حتى لا نصدم باختفائها فجأة فنطب ساكتين.. فى روايته الزينة سيرة وجع عقدت الأم المريضة صداقة خاصة مع كيس علاجها، الذى لم يكن يفارقها أبدًا، كانت تضعه تحت مخدتها، خوفًا من أن يهرب منها، ولأنها لم تكن تجيد القراءة، اخترعت طريقة تعرف بها أنواع العلاج ومواعيده، كان الابن يسميها «لعبة الألوان» لون العبوة هو الذى يحدد استخدامها وموعدها ولم تكن تخطئ أبدًا..

زرنا طبيبا بمصر الجديدة، كتب لها علاجا جديدًا ونصح لعينها بجلسات ليزر حتى لا يضيع نظرها.

بتلقائية وأنا أعطيها كيس علاجها، طلبت منى أن أقرأ دواعى الاستخدام. قلت لها: وعرفتى فين دواعى الاستخدام دي؟.. احنا اتطوّرنا جدًا. ابتسمت بوهن: كُتر البُكا يعلم النواح.

عندما قرأت دواعى استخدام علاجها الجديد، وجدت أن بعضه محظور بالفعل على مرضى الكبد.

عدنا إلى طبيبها مرة أخري، وقبل أن أتحدث سبقتني: فى عرض النبى شوية تركيز يا دكتور مش عشان نصلح حاجة نبوّظ حاجة تانية هى بايظة أصلا..

ظلت لأيام لا سيرة لا لها إلا عن أيامها فى المستشفي.. أخوكم دخلنى الجنة وأنا عايشة.. كان خايف عليّا أوى كنت أقول له عندى مغص جامد أوى وعاوزة حقنة يجرى يجيب الدكتور من إيده يدينى الحقنة فأرتاح.. أصل محمد ده حنين عليّا قوي.. فى المستشفى جاءها كثيرون من البلد كنت أتعجب من حرصهم، غادرتهم من أيام وستعود إليهم بعد أيام فما الذى يمكن أن تفعله هذه الزيارة أو تعنيه.. وجدتها تقول لى ما هو أكثر: شوف اللى يزورنى وأنا هنا اوعى تقصّر فى حقهُ وانت واقف على قبرى بص فى الوشوش كويس واحفظها ومتنساش حد.

فى كل مرة كان الابن يزورها يدخل إليها مباشرة.. لا يمنعه شيء.. لم يطرق بابها فى أى وقت فلم يكن يحجبه عنها أبواب.. وللأسف حدث ما كان يخافه.. وجد نفسه أمام باب مغلق، لابد أن يطرقه فى انتظار من يفتحه، وعندما فتحته غيرها.. أدرك أنها ماتت..

رغم ألمها الذى كان حاضرًا دومًا لم يتخيلها أبدًا تموت.. لكنها فعلتها وماتت.

لمّا وجدتهم يحكون عن يومها الأخير معهم، تمسّكت بيومى الأخير معها، حتى لا يتفلّت مني..

نامت، ولما استيقظت جمعَتْ كل الورد الذى جاءها، لم تكف عن الضحك، صدّقت ما قاله طبيبها، أو أنها خدعت نفسها به.. لا يغادرنى أبدًا وجهها وهى تدخل حجرتها حاملة الورد الذى ضمّته إلى صدرها وتقول لكل من يصافحها: أنا بقيت تمام، الدكتور قال لمحمد كده، كده واللاّ لأ يا وَلَه؟

وبحزن لم يغادرنى حتى الآن، قلت لها: كده يا سِتّي.

مر شريط حياتنا معا أمامى باجتياح كامل، سمعت صوتها، اقتحمنى وجعها، لكننى لم أبك أبدًا، كان البكاء أقل كثيرًا مما تستحق.

 

بعد ما يناموا العيال

الادعاء بأنك اكتشفت موهبة أخذت مكانتها لمسيرة النجومية نوع من الغرور الكاذب والسفسطة والكـلام الفارغ ومجرد تحميل جمايل، والبحث عن دور، ورغبة فى الالتصاق بدائرة الضوء داخل ثوب المعلم والأستاذ وصائد اللآلئ ومكتشف النجوم وصاحب المدرسة وجلباب أبى وعباءة أمي، ولولاى لكان نجمكم مجرد شمعة فى مهب الهواء يذويها الإهمال داخل فانوس صدئ… الموهبة يا عالم ليست فى حاجة لى أو لَك.. الموهبة بداخلها شحنة ربانية للدفع الذاتي، للقبول لدى الآخر، لتوسيع سكتها بطاقتها الخلاّقة، بشحنتها لترتيب أوضاعها تبعًا لچيناتها، للارتفاع للسطح، لطى الطوابير، لتصدر المقدمة، لسرقة الكاميرات، للمروق اللين ما بين جلمود صخر، لاستخراج الاستحسان من شفاه الصمت، للتجلى والتحلى والاستحواذ ولفت الأنظار وانتزاع التصفيق.. و..من هنا كان دفع قلم الموهوب عمر طاهر ذاتيًا عندما تلاقينا على أرضية مجلة «نصف الدنيا» من عشرين سنة.. تلك النبرة المميزة بغلاف من السخرية فى سطور أدبية تعرض ولا تنتهك، تقترب ولا تتعدي، تلوم ولا تخاصم، تكشف ولا تفضح، تتأمل ولا تتململ.. لغة نِفسها حلوة ولها نَفَس فى القراءة.. تلك الكتابة فتحت له الأبواب.. أجبرت صفحات الصحف والمجلات على أن توسع له أعمدتها بأريحية، وأن تدور المطابع مرحبة بإصداراته المتواليات بعناوينها اللافتة مثل «صنايعية مصر» و«شكلها باظت» و«الكـلاب لا تأكل الشيكولاتة» و«من علّم عبدالناصر شُرب السجائر؟».. و..ربما الأمر الوحيد الذى يحق لى أن أمليه عليه إذ ما كنت عاصرت بداياته هو: اقعد يا ابنى واكتب وبلاش لعب.. رايح فين؟ خليك على مكتبك.. اكتب كثيرًا.. كثيرًا جدًا، وكلما كتبت ستجد قراء كثيرين فى انتظارك.. أكثر من صحبة وأنا معهم.. وما كتابك الأخير «بعد ما يناموا العيال» يا عمر يا طاهر سوى سيمفونية اجتماعية شبابية تعزف على ألحان أجروميتك الساخرة لحن الإنسانية داخل الأسرة المصرية فى طبقتها المتوسطة التى تركب الأوتوبيس، وترتدى الشبشب البلاستيك بوردة عباد الشمس، وتقبل الشاى والسكر والزيت والمكرونة كهدايا قيمة، ويوسع اللـه فيها على الجدع فى كل شيء لكن يبتليه بزوجة نكدية خُلقها ضيق، والبنت فيها ترسل للمحب صورتها بشعرها المكشوف بمفهوم أنها تأتمنه على نفسها، وجلابية البيت للزوجة تفتح الباب لشعور مبكر بالأخوّة، والجالس على القهوة فى انسجام تام لم يمنعه جسده الممتلئ من أن يضع ساقًا فوق الأخرى والمشكلة فى أن تكوينه يجعل الحذاء مرفوعًا طوال الوقت فى وجه رواد المقهى والعابرين فى الممر الضيق مرددًا بصوت عال: ابتديت دلوقت أخاف.. أخاااااف للعمر يجري..

وفى سكة المسافات تكتب يا عمر بشاعرية وشجن عن رجرجة الطريق التى تفتح الجروح ويفك إيقاع السفر مسامير الذاكرة حتى يظهر للشاردين فى المواصلات العامة من شباك القطار أو السيارة والأوتوبيس كل من رحلوا عن حياتهم يلوّحون لهم من بعيد على الطرق السريعة.. ويسألها الحبيب فى أقصوصة «خجل قديم» عن عواطفها تجيب: ميتة فى دباديبك، ثم تسأله: ألاّ صحيح يعني، إيه دباديبك دي؟ فيرد بثقة العارفين: دبيب القلب.. ويعبّر الكاتب عن الإحساس بالغربة لدى بعض الشباب القادم من المحافظات لمعترك العاصمة هاجرًا بيت الأهل هناك باحثًا عن رفقة هنا تُشعره بأنه صاحب مكان والبيت بيته: «هجرت الإقامة مع صديق لأنه كان يغيِّر شفرة الواى فاى عند خروجه حتى لا أشغِّله فى غيابه خوفًا على الباقة. وهجرت ثانيًا لأن تعليقه على استحمامى عدة مراّت فى اليوم الواحد لم يرُق لي. وتركت الثالث لأنه اعتبرنى غاضبًا ـ المسئول عن غزو النمل لمطبخه، لأننى تركت علبة السكر مفتوحة، بينما أيقظنى الرابع فى السادسة صباحًا طالبًا منى الانصراف لأن صديقته على وصول وسيقضيان النهار معًا، وترك لى الخامس ملصقًا على باب الثلاجة يطالبنى بشراء مستلزمات البيت التموينية لو كان فى نيتى أن أظل فى شقته حتى نهاية الأسبوع.

وربما لندرة الأقلام التى تكتب عن «العِشرة الطيبة» بكسر العين بمعنى «السعادة الزوجية» وليس «العشَرة الطيبة» بفتح العين «مسرحية سيد درويش»، فقد كان لوقع مجموعة قصص عمر طاهر الأخيرة «بعد ما يناموا العيال» صدى رائع عندى لما تحمله غالبية السطور من تجاوب وتعاطف وتراحم بين الزوجين خاصة فى هذه الأيام التى تعيش فيها العائلة المصرية فى حالة انتظار متوتر يسبق العاصفة، وعلى صفيح ساخن قبل ما يغلى الطبيخ مع التعديلات الجديدة القادمة على قانون الأحوال الشخصية، التى يتم فيها اعتقال كل من تسول له نفسه!!!.. فى ختام قصته الأولى «أنثى السكر» سطور معبرة تقول: «فى طريقها إلى المائدة تحمل طبق المخلل رأته يتذوق صنع يديه ويهز رأسه استحسانا، ابتسمت تشجعه وهى تفكر فى أن هذا الرجل لا يستحق أبدًا أن يشعر يومًا بالوحدة».. وعن الزوج الذى وقف أعلى السلم لتتأمله الزوجة من تحت على البسطة ثم تسأله:

ــ إيه اللى موقَّفك عندك؟!

أدرك أنه فى طابق آخر غير طابقهما فقال إنه سمع خطواتها فقرر أن ينتظرها ليكملا الطريق إلى شقتهما معًا. صعدت ما تبقى من درجات حتى وقفت إلى جواره، ثم تعلقت فى ذراعه، وقالت له:

ــ عاملالك مفاجأة على الغدا.

قال:

ـ ورق عنب!

ضحكت وقالت:

ــ بالكوارع.

ابتسم وطبطب على ذراعها المتكئة على ساعده، ثم واصلا الصعود معًا..


لمزيد من مقالات سـناء البيـسى

رابط دائم: