القانون فى أبسط تعريفاته هو مجموعة القواعد والمبادئ المجردة والعامة والآمرة والملزمة، التى تنظم العلاقة بين المواطنين، وبينهم وبين الدولة صاحبة الاختصاص التشريعى سواء من خلال السلطة التشريعية أو القرارات التى تحظى بقوة القانون، ويتضمن القانون بهذه الصفة تحديد الحقوق والواجبات وتعيين العقوبات التى تترتب على انتهاك هذه القواعد؛ ولا شك أن القانون هو الحد الفاصل بين الدولة الحديثة وما قبلها، ولا يعنى ذلك أن ظهور القانون ارتبط بميلاد الدولة الحديثة، وإنما يعنى أن القانون اكتسب مع الدولة الحديثة طابع الشمول والعموم والمواطنة والمساواة والعدالة نظرا لتطور فلسفة التشريع والديمقراطية والحريات العامة، وضرورات الاستقرار الاجتماعى والتوازن بين مختلف مكونات المجتمع الحديث وضمان حقوق الأفراد والجماعات بصرف النظر عن انتماءاتهم وأعراقهم وأجناسهم وثقافاتهم ودياناتهم مادام تحدد انتماؤهم للوطن أو الدولة.
الأزمة التى أثيرت مؤخرا بصدد تعديل قانون الشهر العقارى وتسجيل الملكيات، قانون رقم 114 لعام 1946 والرفض العارم لهذه التعديلات والتى كان مقررا أن تدخل حيز التطبيق فى 6 مارس الحالى، لولا تدخل الرئيس عبد الفتاح السيسى وإرجاؤه تنفيذ وتطبيق هذه التعديلات لمدة لا تقل عن عامين، وموافقة مجلس النواب على إرجاء العمل به حتى 30 يونيو 2023 تطرح العديد من التساؤلات التى ينبغى إلقاء الضوء عليها ومناقشتها من الآن حتى يمكن تجنب إصدار تشريعات مثيرة للجدل وينتهى الأمر برفضها أو إرجائها أو تعديلها.
بادىء ذى بدء يمكن القول إن الجدل الذى أثير بصدد تعديلات قانون الشهر العقارى، يعتبر إعادة إنتاج لما أثير بصدد قانون التصالح فى مخالفات البناء الصادر فى 2019؛ حيث أثار هذا القانون جدلا واسعا وتعرض للتعديل بما يتوافق مع مصالح وتطلعات المواطنين وتم مد أجل التصالح أكثر من مرة لإتاحة الفرصة أمام المواطنين لتقنين أوضاعهم وتم تخفيض سعر التصالح للمتر، أكثر من مرة، لحفز المواطنين على الإقدام على التصالح، تعديلات قانون الشهر العقارى التى كان يفترض أن تطبق من 6 مارس قوبلت بعاصفة من الرفض والمعوقات بسبب تعقيد الإجراءات المطلوبة لإثبات الملكية وتوزيعها بين جهات مختلفة، وتفويض الشهر العقارى بتحصيل ضريبة التصرفات العقارية التى تقع على كاهل بائع الشقة أو الأرض أو العقار وصعوبة إلزامه بذلك وتحمل المشترى قيمة هذه الضريبة.
وفى الحالتين أى حالة قانون التصالح فى مخالفات البناء وتعديلات قانون الشهر العقارى، ثمة العديد من العقبات التى تقف فى وجه التطبيق؛ أولا أن هذه القوانين أى التصالح والشهر العقارى تتصدى لمعالجة مشكلات عميقة ومتراكمة طيلة عقود من الزمن؛ ووفق الأرقام المنشورة فإن عدد العقارات المبنية دون ترخيص أو المخالفة لقوانين البناء تعد بالملايين، كما أن 90% من الملكيات المتعلقة بالشقق أو العقارات أو الأراضى غير مسجلة، بالإضافة إلى ذلك فإن الأطراف المعنية بهذه القوانين عديدة ومتداخلة ويصعب تعقبها وتعيينها؛ على نحو يضمن العدالة والحقوق، ومثل هذه المشكلات المتراكمة تقتضى التدرج فى معالجتها على نحو يضمن حقوق كل الأطراف ورضاها.
من ناحية أخرى فإن إصدار مثل هذه القوانين يتطلب دراسات موضوعية وواقعية لهذه المشكلات فى الواقع، وتوفير منظومة معلومات تؤخذ فى الاعتبار، عند تشريع القانون وتحديد قواعده وبنوده؛ ذلك أنه ومع مرور الزمن وإهمال تطبيق القوانين وتكرار مخالفاتها، تعقدت المشكلات ودخلت فى أطوار وأشكال مختلفة من التركيب والتعقيد، يقتضى التدرج وجدولة الأولويات، وإجراء حوار بين الأطراف المختلفة، وتوافر شروط ومقومات إجراء هذا الحوار أى الجدية والقدرة على التفاوض وبلورة الحلول الوسط التى تحفظ للدولة حقوقها وحقوق المواطنين وتستهدف استقرار المجتمع والتعاملات وتأمين كل الأطراف، وهذه المشكلات بحكم تكوينها غير قابلة للحل بإجراء بعض التعديلات أو إبقاء الأمور كما هى عليه.
بالإضافة إلى ذلك فإن إصدار وتشريع أى قانون يتعلق بمصالح وحقوق المواطنين وعلاقتهم بالدولة، يتطلب ضرورة توافر عنصر المواءمة السياسية، وحالة المجتمع المصرى خاصة بعد قبول المواطنين المصريين تكلفة الإصلاح الاقتصادى والمالى وتعويم سعر الصرف عن طيب خاطر، واقتناعهم بضرورة العبور من هذه المرحلة، بمساعدة الدولة وأجهزتها فى تذليل المشكلات الناجمة وتوفير السلع والخدمات بأسعار مناسبة ومحاربتها التضخم والغلاء، وتنفيذ برامج الحماية الاجتماعية لمحدودى الدخل، وكذلك انخراط المواطنين المصريين فى الإقبال على التصالح وتقنين أوضاع مساكنهم وعقاراتهم وتحملهم لمشقة الزحام والتدافع أمام الأحياء لتقديم طلباتهم.
وذلك كله فى إطار ظروف جائحة «كورونا» والالتزام بالإجراءات الاحترازية وانعكاسات هذه الجائحة على الأوضاع المعيشية ومستويات الدخول للعديد من الفئات التى تضررت منها فى قطاعات السياحة والفندقة والعمالة غير المنتظمة وغيرها من القطاعات، التى تأثرت بالجائحة ولم تأل الدولة المصرية جهدا فى احتواء آثار هذه الجائحة وتخفيف وطأتها على العديد من الفئات وحرصها على حماية المصريين صحيا وماديا من تداعياتها.
يبقى بعد ذلك أن المصريين سواء فى رفضهم لتعديلات قانون الشهر العقارى، أو تباطؤهم فى بداية الأمر فى الإقبال على التصالح فى مخالفات البناء، لا يمكن اعتبار ذلك مؤشرا لرفضهم الخضوع للقانون أو اعتراضهم على حق الدولة فى التشريع أو الحصول على حقوقها؛ على العكس من ذلك فإنهم يدركون جيدا قيمة وأهمية الدولة فى حياتهم، فهم أصحاب أول دولة موحدة ومركزية فى التاريخ، وعرفوا القوانين والقواعد المكتوبة قبل غيرهم من شعوب الحضارات القديمة، بل، وعرفوا شرائع متقدمة فى مجالات مختلفة وهم أصحاب فجر الضمير فى تاريخ البشرية، كما يدركون أيضا أن الدولة والقانون هما أعمدة الاستقرار والعمران والحضارة، وأن غياب القانون وتفكك الدولة هما مؤشرات الانحطاط والتدهور والتفكك، وخبرتهم التاريخية الموروثة والمكتسبة فى الوعى والأعماق تدفعهم للحفاظ على الدولة والقانون كما أن مصر تحظى بنخبة قانونية تصدرت الكفاح الوطنى منذ ما بعد الاحتلال البريطانى وحتى مفاوضات طابا فى الثمانينيات، والمصريون يربطون تاريخهم القانونى بقيم العدالة والكرامة والمساواة والتضامن، وبالرغم من ذلك فإن مراكمة الفساد والإفلات من العقاب والتواطؤ فى تجاهل تطبيق القوانين خلال العقود المنصرمة، خلق ثقافة فرعية تذكى تجاهل القانون وتذكى التهرب من تطبيقه، وهى الثقافة التى ينبغى مقاومتها بنشر الوعى القانونى وترسيخ الثقافة القانونية واحترام القانون وتذكية الرضوخ له ليس باعتبار ذلك ضرورة قسرية وإنما ضرورة اختيارية وطوعية تصب فى المصلحة العامة.
لمزيد من مقالات د. عبد العليم محمد رابط دائم: