لأول مرة منذ ثمانية عقود،يخلو منتزه أريانا الواقع فى إطار محيط مبانى قصر الأمم مقر مكاتب الأمم المتحدة فى مدينة جنيف، من «الإسطرلاب» الفلكى شبيه القبة السماوية (Celestial Sphere) منتقلًا فى رعاية خاصة إلى مدينة فلورانس الإيطالية بعدما أصابه العطب متأثرًا بعوامل مرور الزمن والتعرية والأحوال الجوية لتجديد شبابه وإعادته إلى العمل والدوران مرة أخرى على يد مجموعة من أحفاد الخبراء الذين نفذوا ذلك العمل الفنى المعقد قبل عقود كرمز للحياة والسلام والتعددية ليتحول إلى رمز لمكاتب الأمم المتحدة، التى ورثت مبانيها عن سابقتها عصبة الأمم.
استغرق تصميم العمل نحو عامين على يد النحات الأمريكى بول مانشيب (1885-1966)، ويتجاوز قطره أربعة أمتار وهو تحفة فنية منحوتة على شكل مجسم كروى على طراز فن الآرت ديكو تشرف من موقعها فى مشهد بانورامى على بحيرة جنيف أو ليمان كما يطلق عليها الفرنسيون فى الجهة المقابلة. تم تصميم العمل ليدور على محور متحرك فى اتجاه نجمة الشمال، مع نظام إضاءة يسمح برؤيته من مسافة بعيدة، وهو ما لم يحدث منذ استقر فى مكانه بسبب الحرب، ليصيبه العطب فى الستينيات بسبب عوامل التعرية والأحوال الجوية والتغيير فى درجات الحرارة ما بين التجمد والاعتدال، التى تسببت فى مطلع الأربعينيات مع تسرب مياه الأمطار إلى إصابة جسم العمل الداخلى بالشروخ والصدأ، مما استدعى تدخلا سريعا وقتئذ.
ومنذ إنجاز العمل عام 1939 فى أتيليه الإيطالى برونو بيرزي، لم تتوقف محاولات الإنقاذ، وكان أحدثها فى العام 2000. أخيرًا، تقدم أحد المانحين المجهولين لإعادة الحياة للعمل بنقله إلى بلد المنشأ ووضع خطة للتجديد بالتنسيق مع المكتب الاستشارى ديمنسيو صاحب تجربة إنقاذ كنيسة برونليتشى الإيطالية، بناء على تصور رقمى باستخدام الكمبيوتر بتقنية ثلاثية الأبعاد ، بالتعاون مع فريق المتخصصين لمجموعة مارينيلى فيرديناندو لاستبدال القطع الحديدية الصدئة بمثيلاتها من الاستانلس ستيل المقاوم للصدأ، وتجديد نظام الحركة وإضافة مولد لتفعيل نظام الإضاءة، واستعادة بريق السطح الخارجى وأوراق الشجر الذهبية وصنفرة القطع البرونزية.
تجسد القبة استلهامًا لخليط من الحضارات القديمة الشرقية والغربية من بابل إلى روما وأثينا، وتحمل تناغمًا بين تشكيلات إنسانية وحيوانية ونباتية وفلكية فى إطار كواكب مطلية بالذهب، ونجوم فضية، فضلًا عن منحوتة لرأس المصمم نفسه ضمن المحتويات الداخلية للمجسم بديلًا عن حفر اسمه. جاء تصميم وتصنيع العمل وقتئذ- بناء على رغبة وطلب وتمويل مؤسسة توماس وودرو ويلسون لإحياء ذكرى وتخليد اسم الرئيس الثامن والعشرين للولايات المتحدة من عام 1913 إلى 1921، الأب الروحى لفكرة إنشاء عصبة الأمم، وصاحب المبادئ الأربعة عشر لمفاوضات السلام من أجل إنقاذ أوروبا وإنهاء الحرب العالمية الأولي. ألقى ويلسون مبادئه فى خطاب أمام الكونجرس الأمريكى فى 8 يناير عام 1918، مستندًا فى محتواه إلى بحث لجنة تحقيق ضمت نحو 150 مستشارًا بقيادة مستشار السياسة الخارجية إدوارد هاوس، وهو ما قوبل فى البداية بتشكيك الحلفاء فى إمكانية تطبيق المبادئ الواردة وهم: جورج كليمنصو (فرنسا)، وديفيد لويد جورج (بريطانيا)، وفيتوريو أورلاندو (إيطاليا).
الجدير بالذكر أن وصول القبة السماوية وتثبيتها إلى مكانها تزامن مع اندلاع الحرب العالمية الثانية وإلغاء انعقاد الجلسة الثالثة عشرة العامة لعصبة الأمم مما حرم العمل الفريد من حفل استقبال يليق به، ومع توالى الوعكات وتعرضه للتداعى والمحاولات المتكررة لإنقاذه، ينتقل اليوم إلى فلورانس الإيطالية فى ذروة جائحة كوفيد -19، وكأن العمل فى رحلته يعكس ما يمر بالعالم حوله من أزمات.
من جهة أخري، لا تنفصل المنحوتة الفريدة عن محيطها التاريخي، حيث تم بناء قصر الأمم بين عامى 1929 و1936 وتوالت الإضافات إليه ليبلغ امتداد المجمع نحو 600 متر، ويضم 34 قاعة مؤتمرات و2800 مكتب. تم استخدام القصر كمقر لعصبة الأمم حتى عام 1946، ثم أصبح عام 1966 مقرًا للمكتب الأوروبى لهيئة الأمم المتحدة (التى اتخذت من نيويورك مقرًا لها)، بعدما وقع الأمين العام للأمم المتحدة اتفاقا مع السلطات السويسرية، علمًا بأن الأخيرة لم تنضم إلى الأمم المتحدة حتى عام 2002.
قبيل انتشار جائحة كوفيد-19، كانت مبانى القصر فى حركة دائبة كخلية نحل تستضيف بانتظام اللقاءات السياسية والأحداث الثقافية: كالحفلات الموسيقية والمعارض الفنية فضلًا عن تزيينها بالعديد من الأعمال الفنية من اللوحات والمنحوتات والجداريات التى تم التبرع بها من الدول الأعضاء والهيئات الخاصة وكذلك المؤسسات الفنية والأفراد والمبدعون، فضلًا عن الزيارات اليومية المجدولة لمدة ساعة بأكثر من 15 لغة لما لا يقل عن مائة ألف زائر سنويًا، تتيح بحسب جدول العمل اليومى والاجتماعات المعقودة، مشاهدة: صالة حقوق الإنسان وتحالف الحضارات التى زخرفها الفنان المشهور ميجيل بارسيليو؛ ومنحوتة القبة السماوية والنصب التذكارى لغزو الفضاء؛ وقاعة الجمعية العامة الأكبر فى قصر الأمم، وقاعة المجلس التاريخية التى تزينها جداريات للفنان خوسيه ماريا سيرت، وكذلك متنزهات المقر المشهورة بطواويسها حرة الحركة طبقًا لوصية المتبرع بها لتعيش إلى جوار أشجار عمرها قرون شهدت كثيرا من الأحداث وتعاقب الأزمات كدورة الشمس، وكما كان مخططًا لحركة الاسطرلاب الكروى الذى يتم تجديده لاستعادة شبابه.
رابط دائم: