سوف أعترف انه قد شملتنى لوهلة خضّة إزاء ما قاله المذيع، عن أهالينا فى الصعيد، لكن أعترف ايضا ان هذه الخضة لم تستمر طويلا، فسرعان ما تذكرت ان هذا الخطاب ليس جديدا على مجتمعنا .. تكفى اطلالة سريعة حولك وحولى لنجد عشرات الأمثلة الاشخاص يمارسون ما تلفظ به هذا المذيع و إن لم يجاهروا او يقوموا ببروزته.. أتصور أن سر الخضة، كونها المرة الاولى التى يجاهر بها احدهم بعنصرية متقيحة، لكن الحقيقة ان العنصرية قد اتسعت رقعتها، ولم تعد تقتصر على فئة دون اخرى، ولا مجال دون آخر ..لم تعد عنصرية الحضر ضد الريف وجنوبنا ولكنها عنصرية متغلغلة فيما بين شرائح الجماعة الواحدة او المجتمع الواحد نفسه .. العنصرية المجتمعية ليست وليدة الساعة .. الفروق العريضة بين الناس صارت واقعا، حتى فى مجتمع الحضر..
عنصرية تتحدد بخطوط عميقة يحددها شكلك ومصيفك وعربيتك وحتى مكان نزهتك! علينا القبول بأن ما شعر به أغلب الناس إزاء ما تفوه به ذلك المذيع، عن أهالينا ، كان متجاوزا لفكرة الانزعاج، وأوصل الناس الى مرحلة يمكن وصفها ببساطة أنها مفعمة بالغضب ، لكن علينا ايضا الموافقة على انها ليست المرة الاولى بالنسبة اليه، (المذيع)، فلديه ميراث من التعالى الفج وربما الإهانة المضمرة، وافتقاد الوعى والمهنية الحقة، بدأ من سخريته بتاكلوا فسيخ بأد ايه والشعب اللى ما بيستحماش واللى مش عاجبه ياخد باسبوره ويمشي. وهذا نهج تنظر فيه جهات اعلامية مسئولة عن نهجه وعن ألوان اخرى من الخطاب والاداء المتجاوزة لفكرة دور المذيع. لكن، من وجهة نظرى، لابد من قراءة الواقعة من منظور أوسع، ربما كاشف لعوار مجتمع يعج بصنوف من المشاعر العنصرية والطبقية، متعددة الصور، والتى تنضح فى تصرفات و تراث شهى، بل واحكام قد لا تكون منطوقة ... تعليق المذيع، كما يعكس فساد الوعى، وغياب الثقافة، هو ايضا محمل بالدلالات العنصرية، التى لا ينفرد بها المذيع..
أتصور ان الحكاية ليست مجرد فلان غلط فى حق الصعايدة, فلان غلط واعتذر، مجتمعنا مضروب بعنصرية اجتماعية وطبقية وحتى عنصرية جغرافيا ...تعمقت افكار «تصنيف الناس باكثر مما كان الامر .. ما بين السخرية من لون البشرة، اطلاق اوصاف سلبية على المختلف، إلصاق سمات على ناس وفق جغرافية القرى والمدن.. دول بخلا وطول عمرهم اغبيا ودول ودول...، ناهيك عن تفشى معايير طبقية شديدة الضحالة: ماركة الساعة التى ترتديها تحدد مكانتك.. نوع الحذاء.. حقيبة اليد.. مكان بيتك.. النادى .. مدرسة العيال .. حتى سندوتش المدرسة ! .. نمارس عنصريتنا بمنتهى السلاسة ، بل دون ان يرجف لنا رمش.. ربما كان ما تجلى من خضّة الناس ومشاعر مزجت او حملت نفورا وغضبا ورفضا، ربما يحمل أملا فى المراجعة والمواجهة الحقيقية، الصادقة، والاعتراف بأن العنصرية المجتمعية متجذرة وتمارس فعلا دونما وعى، بدأ من الدين الى الاقتصاد مرورا بنوع العمل ولون البشرة ونوع الاكل والزى ومقياس الجمال ونوع الفن، ونستطيع أن نفرد مساحات للأمثلة العنصرية تمارس حتى فى الافلام وماتشات الكرة .. الخطاب العنصرى المتعالى لا يحتاج لأكثر من تلك المرتبة الدونية التى تضع فيها انسانا آخر، لانه يختلف عنك فى قيمه او لونه او دينه او مستواه المعرفى او طبقته الاجتماعية.. والذى استوقفنى ليس ما قاله مذيع لم يفعل اكثر من انه جاهر، بل ان يتعامل الناس، وكأنها سابقة فريدة وسجلات الحياة الممارسة تنضح وتقول ولا تحتاج للبحث عن سر الخضة!.
لمزيد من مقالات ماجدة الجندى رابط دائم: