رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

الجينوم .. بين العلم والسياسة (1)

لعل أهم ما يميز الإنسان عن باقى المخلوقات هو فضوله اللامتناهى وشغفه الأبدى الى الفهم والمعرفة وفك أسرار الكون.. عبر القرون، حقق الإنسان طفرات هائلة فى فهم نفسه والعالم من حوله، و لكنه رغم هذا لم يؤت من العلم الا قليلا، فلا يزال بحر المعرفه ممتدا أمامه الى مالا نهاية، ولا تزال الأسئلة الحائرة أضعاف الإجابات.. لكن إذا جاز لنا ان نذكر أحد أهم إنجازات هذا القرن فهو فك البنية الاساسية لكتاب الحياة الا وهى الشفرة الوراثية بكل ما يحمله هذا من إمكانات غير محدودة ومسئوليات هائلة.. ولا نبالغ إذا قلنا إن العفريت الذى يوشك الآن على الخروج من قمقمه قد يفتح للبشرية أبواب النعيم أو مداخل الجحيم..

ولكن لنبدأ الحكايه من البداية.. فمنذ قرون والإنسان يعلم بالملاحظة ان الصفات الوراثية تنتقل من الأهل الى الأبناء، فكان يوجدة فى الجاهلية نكاح الاستبضاع، وهو ان تذهب الزوجه (بموافقه زوجها) الى أحد نبلاء القبيلة الذى يتميز بقوة البدن أو الفروسية وتستنكحه حتى تنجب لزوجها طفلا يحمل الصفات المرغوبة.. جاء الاسلام وحرم هذا الفسق وعلمنا الرسول الكريم فى حديثه الشريف ان نتخير لنطفنا وان العرق دساس.. فى القرن التاسع عشر قدم تشارلز داروين نظرية يسهل إثباتها وهى البقاء للاصلح، فالغزال البطيء سيفترسه السبع، اما الأسرع فسيحيا ويتكاثر لينقل صفاته الوراثية لجيل جديد.. الزرافة ذات الرقبة القصيرة لن يمكنها التقاط الطعام مثل نظيرتها ذات الرقبة الطويلة، وهكذا عبر الاجيال أصبح الزراف اطول رقبة وأكثر تكيفا مع البيئة .. ولكن كيف تنتقل الصفات الوراثية .. فى نهاية القرن التاسع عشر كان ماندل أبو علم الوراثة هو أول من أثبت ان كل جين ينتقل كاملا بذاته وليس كخليط، وانه داخل البويضة الملقحة يحدث انتقاء من جينات الاب والام ويتم انتقالها للجنين (بسبب الانتقاء الجينى لا ينصح بزواج الاقارب، فمثلا فى امريكا تحرم نصف الولايات تقريبا زواج أولاد العم، لانه داخل البويضة الملقحة لن يمكن انتقاء الجينات الأفضل لقرب تماثلهما وهكذا تزداد فرص تكرار الامراض الوراثية).. لعله من اللافت ان الفطرة الإلهية فى معظم الكائنات الحية تتيح البقاء للجين الأفضل، وسبحان الله الذى خلق كل شيء بقدر .. ففى مملكة النحل تطير الذكور خلف الملكة محاولة الوصول لها لتلقيحها ويفوز الأسرع ويكون مصير باقى الذكور هو الموت عقب انتهاء التلقيح .. فى عالم الوعول نشاهد ذكرين يتناطحان بقرونهما حتى الموت للفوز بالأنثى التى تترقب بصبر نتيجة المعركة .. فى عالم الوحوش نجد ان ذكر الأسد متى هرم دخل عرينه ذكر شاب ليتحداه ويطرده ويفوز بالإناث.. وهكذا يتم الاختيار الفطرى للجين الأفضل من خلال آليات متعددة ..

فى كتابه الجين يحكى لنا العالم والطبيب سيدهارتا موخيرجى كيف يمكن ان يكون العلم مصدرا للخراب لو دخلت فيه السياسة والدين واساءت استخدامه.. فبعد قبول نظرية البقاء للأصلح لداروين تم صك تعبير جديد اسمه تحسين النسل، وللمفارقة ان اول من صكه هو ابن عم لداروين.. وكانت الفكرة تبدو نبيلة ومنطقية فى ظاهرها.. فلتحسين نسل الاجيال المستقبلية علينا الا نسمح للمعتوهين أو المرضى بالإنجاب.. لاقت الفكرة استحسانًا كبيرا من سياسيين ومنهم فرانكلين روزفلت و ونستون تشرشل وأيضا من رجال دين ومفكرين كبار .. وهكذا بدأت اكبر عملية إخصاء لضعاف العقول ومدمنى الخمور والمخدرات.. حتى نهاية الثلاثينيات كان قد تم إخصاء 100 الف امريكى تحت هذا البرنامج.. لم يمض وقت طويل حتى انتقل الموضوع الى المانيا النازية بقيادة هتلر .. بدا الامر بالتعقيم العرقى لمجموعات بعينها كاليهود والغجر ولكن سرعان ما امتد الى التصفية الكاملة لكل من يرى النازيون انه غير مرغوب فيه .. بنهاية الحرب العالمية الثانية كانت قد تمت تصفية 11 مليون شخص .. بعد انتهاء الحرب ولفترة طويلة أصبح الحديث عن تحسين النسل من الأمور المحرمة .. وقل الاهتمام بالدراسات الجينيه نوعا ما، لكن عجلة العلم لم تتوقف ..

فى 26 يونيو 2000، وقف الرئيس الامريكى بيل كلينتون ورئيس وزراء بريطانيا تونى بلير فى شرفة البيت الابيض ليعلنا للعالم ان الخريطة الجينية قد تم رسمها لأول مرة.. كان هذا فتحا عظيما، ولفهم مغزاه نحتاج الى الالمام ببعض الاساسيات.. الجينوم هو كتاب الحياة الذى يحمله كل منا بداخل كل خليه من اجسامنا .. مثل اى كتاب فهو يتكون من حروف تكون كلمات وجملا.. حروف الجينوم هى اربعة قواعد امينية يرمز لها بالحروف A,C,G,T.. دون الدخول فى تفاصيل لا يتسع لها هذا المقال يمكن تخيل الجينوم مثل كتاب ضخم يحتوى على اكثر من مليون صفحة .. ويتكون من 32 فصلا وهى الكروموسومات و20 الف قصة قصيرة هى الجينات.. تلك القصص القصيره (الجينات) هى التى تحدد سماتنا الوراثية مثل لون العين والبشرة والذكاء والطول ويتم ذلك من خلال تسلسل ترتيب الاحرف الاربعة داخل الجينات.. فك شفره السلاسل الوراثية لهذا الكتاب الضخم كان مفترضا ان يأخذ اكثر من قرن من الزمان ولكن التقدم السريع فى الذكاء الصناعى والحواسب فائقة السرعة أتاح الانتهاء من هذا البرنامج الضخم فى عقد من الزمان.


لمزيد من مقالات أحمد حسين قنديل

رابط دائم: