رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

أدهم

فى طفولتى شغلتنى كثيراً حكاية أدهم الشرقاوى. انتمى لقرية قريبة من قريتى. تتبعان مركز إيتاى البارود محافظة البحيرة. ومن شدة انشغالى بالموال وحرصى على الاستماع لكلماته وألحانه. لدرجة حفظى له. وصل بى الاندماج مع الموال الحكائى إلى أننى خُيِّل إلىَّ وقتها ولاحقاً أننى رأيت جثته بعد قتله على طريق مصر إسكندرية الزراعى القديم.يخيل إلىَّ أننى رأيت بأم عينىَّ جثمانه بالقرب من قرية التوفيقية وهى قرية صغيرة ولكن لأنها تقع على الطريق الزراعى مصر إسكندرية. نظرنا إليها على أنها نصف مدينة حيث تقام فيها سوق أسبوعية لكل القرى المحيطة ومن ضمنها قريتنا. الخيال الإنسانى مسألة مهمة فى حياتنا. أياً كانت درجة استخدامه لها. وتصديقه لما يراه فيه. فحتى هذه اللحظة أصدق خيالى فى رؤيتى لجثمان الأدهم بعد قتله. رغم أنه يفصل بين ميلادى وواقعة الأدهم ما لا يقل عن ربع قرن من الزمان.شغلنى الأدهم بعد أن أصبح الراديو ضيفا عزيزا فى حياتنا. كان فى قريتنا كلها راديو واحد. فى دوار العمدة. وابتدى يذيع ملحمة الأدهم بصوت: محمد رشدى:

«منين أجيب ناس لمعناة الكلام يتلوه/ شبه المؤيد إذا حفظ العلوم وتلوه/ ع الحادثة اللى جرت على سبع شرقاوى/ الاسم أدهم لكن النقب شرقاوى». من يومها ما من كتاب جديد يصدر ويحاول كاتبه الاقتراب من حكاية الادهم إلا وحصلت على نسخة منه. وحفظتها فى ننى العين وحبة القلب. إلى أن فوجئت بكتاب سعيد الشحات: مذكرات محمد رشدى، ولمجرد أنه هو الذى غنى موال الأدهم. اعتبرت الكتاب هدية عزيزة وغالية. ووضعته مع كتب سبقته عن حكاية أدهم. مثل الأغنية الشعبية للدكتور أحمد مرسى، وفيه نص الموال الأصلى، وكتاب الموال القصصى وتاريخه سينمائيا للدكتور محمد أمين عبد الصمد، وفيه فصل عن فيلم: أدهم الشرقاوى. لكن كتاب سعيد الشحات ولا أى كتاب سبق أن صدر عن أدهم، لأنه فيه توثيق للمجلة الوحيدة التى حققت مقتل الأدهم. والنص الذى جاء بعدها. والوصف التفصيلى لحالته بعد القتل كما جاء فى مجلة اللطائف المصورة، وقبل الاستطراد فيما أنا بصدده أتوقف عند هذه المجلة شديدة الأهمية وأعبر عن أمنيتى القديمة الجديدة والمستجدة أن أجد الأعداد التى صدرت منها أمامى فى مجلد أو عدة مجلدات. ولكن ما كل ما يحلم به الإنسان يجد من يحققه له. فى عدد اللطائف المصورة الصادر يوم الاثنين 21 أكتوبر سنة 1921، وهذا التاريخ مهم لأنه يستدعى للذهن ثورة 1919 العظيمة وبعض الجرائم التى وقعت أيامها. وقد اهتم بهذه الجرائم الدكتور لويس عوض فى مذكراته المهمة: أوراق العمر. حيث يكتب عن أدهم الشرقاوى وريا وسكينة. فى عدد اللطائف المصورة تاريخ مقتل الأدهم يوم الاثنين والصورة المنشورة له فى المجلة. قالت المجلة إن مصوراتى البحيرة الخواجة فؤاد نجم بدمنهور هو الذى التقطها له بعد مصرعه بـ 25 ساعة. وفى سياق التغطية الصحفية التى أوشكت أن تكمل قرنا فى عمرها الآن تكتب المجلة:

- المجرم الشقى الطاغية أدهم الشرقاوى طارده رجال الضبط والبوليس واصطادوه. فأراحوا البلاد من شره وجرائمه. وبحثت المجلة فى تاريخه الشخصى فتأكد لها أنه ولد نحو عام 1898، أى نهايات القرن التاسع عشر، ولقى مصرعه فى أكتوبر 1921.

كأنه قد مات عن 23 عاما. بعد أن دوَّخ الحكومة المصرية نحو ثلاث سنوات. جاء ميلاده بناحية زبيدة، يقصدون عزبة زبيدة، ويبدو أن كلمة عزبة لم تكن معروفة فى ذلك الوقت. من بلاد مركز إيتاى البارود وألحقه الوالد بالمدارس الابتدائية ـ كان اسمها الإلزامية ـ حتى أتم دروس السنة الرابعة ثم أخرجه أبوه من المدارس حين لمس عدم استعداده لتلقى العلوم. ولوحظت عليه العدوانية. كان يعتدى على كل من يمسه بأبسط شىء. وفى عام 1917 ارتكب جريمة قتل وهو فى التاسعة عشرة من عمره. وكان عمه عبد المجيد بك الشرقاوى عمدة زبيدة أحد شهود الإثبات عليه. وحكمت المحكمة على أدهم بالسجن 7 سنوات. وفى الليمان ارتكب جريمة قتل أخرى. وهكذا حكم على أدهم بالأشغال الشاقة المؤبدة. غير أنه هرب من السجن فى اضطرابات 1919. هكذا يصف الراوى أحداث ثورة 1919. اختبأ أدهم بالقرب من بلدته. وانضم له عدد كبير من الأشقياء. فكوَّن منهم عصابة وأخذ يرتكب الجرائم العديدة. وكان همه الوحيد قتل عمه عبد المجيد الشرقاوى لأنه كان شاهد الإثبات الوحيد فى القضية التى سُجِنَ بسببها. الحكاية مثيرة. وقد يرغب القارئ فى استكمالها حتى النهاية. لكن هذا ليس هدف الكتابة. فغرضى فى هذه السن التى أمر بها التوقف أمام حكاية شغلت الخيال فى مرحلة مبكرة من العمر. ولكنى لا بد أن أتوقف أمام شهادة الدكتور لويس عوض. ليس بسبب أدهم. ولكن لأهمية لويس عوض ومذكراته. ولويس عوض كان يبدو بالمسافة الضخمة التى تفصل بين الرواية الشعبية البطولية لأدهم وتناقضها مع الرواية الحقيقية لها.

إن سؤال لويس عوض هو: بطل أم مجرم؟ وهو يبدو مشغولا بهؤلاء القتلة والسفاحين الذين يحولهم الخيال الشعبى إلى أبطال، وكيف يتم هذا؟ ولماذا؟ بل إنه يصاب بدهشة بالغة عندما يكتشف أن الوجدان الشعبى حوَّل أدهم إلى بطل. ويحلق لويس عوض مع خيالاته:

- مصرع فتى فى الثالثة والعشرين من عمره. فيَّاض الحيوية، أمر فى حد ذاته مأساوى. تهتز له القلوب. ولكن الحكاية غير كافية بتجميع الأساطير حولها. خصوصا عندما تكون الشخصية ملغزة. ويدعو الباحثين لإعادة ملف أدهم ودراسته صفحة صفحة. كما يدعو أساتذة الأدب الشعبى إلى دراسة مواله، وأن يتوقفوا عند وصف كل حدث لعل ذلك يهديهم إلى الدليل. نعود إلى محمد رشدى الذى كان محتاجا لإدراك أنه لا يغنى لمجرم. واكتشف أنه فى أوقات الظلم فإذا الناس تخترع أبطالها ولا تصدق الروايات الأخرى. هل رأيت كيف حيَّرَ أدهم الشرقاوى الأساتذة والدكاترة بعد ما يوشك أن يكمل قرنا على رحيله عن عالمنا ظالما كان أم مظلوما ؟!.


لمزيد من مقالات يوسف القعيد

رابط دائم: