كتاب الشيخ على عبد الرازق الإسلام وأصول الحكم لايزال قبلة معظم الناس، بل صفوة المفكرين والكتاب، رغم مضى نحو قرن من الزمان على صدوره سنة 1925، ورغم كتابات فى الموضوع أشمل وأعرض كثيرًا من ذلك الكتاب، منها كتابات الأستاذ عباس العقاد، ولكن ينقصها أنها متفرقه فى أكثر من كتاب، ولم يتسع له العمر لجمعها معًا فى مؤلف واحد يقتصر على موضوعها، ومنها بل فى مقدمتها ما كتبه المرحوم الأستاذ الدكتور عبد الحميد متولى أستاذ القانون الدستورى والانظمة السياسية الشهير، والأستاذ فى جامعة الإسكندرية، وفى جامعة أم درمان الإسلامية، وهو كتاب شامل، صدر فى نحو خمسمائة صفحة بعنوان : نظام الحكم فى الإسلام. لم يترك فيه شاردة ولا واردة لكبار الفقهاء والعلماء قديمًا وحديثًا ــ إلاًّ أحاط بها ومحصها، ليخلص بعد دراسة واسعة، إلى أن الخلافة ليست من أصول الحكم فى الإسلام، وكتاب آخر بالغ الأهمية، صدر فى نحو أربعمائة صفحة، بعنوان أزمة الفكر السياسى الإسلامى فى العصر الحديث (مظاهرها ــ وأسبابها ــ وعلاجها).
ومع ذلك ورغمه، بقى كتاب الشيخ على عبد الرازق قبلة معظم الطلاب والباحثين، يرجع ذلك فى نظرى لعدة أسباب، فى مقدمتها شهرته الواسعة بعد مبادأته التى قلب بها الموازين منذ قرن من الزمان، وأصابت بالضربة القاضية مشروع الملك فؤاد التوسعى، حيث كان جمود الفكر والفقه هو المسيطر فى ذلك الزمان، فيما عدا كتابات قليلة بالقياس إلى المجموع العام، مثلها آنذلك الأستاذ العقاد والدكتور طه حسين وأستاذ الجيل أحمد لطفى السيد وآخرون، ولكنها لم تكن قد نالت نصيبها من الذيوع والتأثير، بل قوبل كتاب الدكتور طه حسين (عام 1926) فى الشعر الجاهلى برفض تامٍ، طيره من الجامعة، وأحيل للنيابة العامة التى أجرت معه تحقيقًا واسعًا نهض عليه رئيس النيابة الأستاذ محمد نور ــ ولم يجد لطه حسين مخرجًا إلاَّ فى نفى القصد الجنائى، تجنبًا لمناقشة الموضوع الذى اكفهرت له كل الأجواء، وافتقد طه حسين من يدافع عنه، سوى الأستاذ عباس العقاد الذى تصدى فى مجلس النواب ــ رغم اختلافهما ــ للدفاع عن حريته فى الفكر والبحث.
كان كتاب الشيخ على عبد الرازق بمثابة الصدمة التى ايقظت الكثيرين من سباتهم، ودعتهم الضجة التى أثيرت حوله، إلى الالتفات إليه، فأقبل عليه البعض فضولاً، وأقبل آخرون تطلعًا للمعرفة، واستيسره الباحثون منذ ذلك الوقت، ربما لأن ماذاع عنه يريحهم من عناء بحث وعرض ما جاء به، وهى آفة لانزال نراها حتى اليوم، فتراجع الوقت المقتطع لقراءة الجديد حتى لدى بعض النخبة، وهو ما أصاب النقد أيضًا بصفة عامة، فلا نرى الثراء الذى كنا نراه إلى وقت قريب من أمثال الدكتور محمد مندور والدكتور لويس عوض وكبار الكتاب أمثال العقاد وطه حسين ويحيى حقى الذين لم يبخلوا بإعطاء نصيب للنقد فى كتاباتهم، حتى بتنا نرى من لا يتحدث إلاَّ عن الماضى الذى قرأه، فيتكرر الحديث مرارًا عن رفاعة الطهطاوى والجيل التالى، وكأن الزمن قد توقف ولم ينتج الحاضر مفكرين وأدباء واصلاحيين جديرين بتناول أعمالهم، ولكن هذا التناول يستلزم دراسة، والهمم تكاد تكون قد عافت الجهد وارتاحت إلى ما تعرفه! على أن ذلك لايمنعنا من إعطاء الشيخ على عبد الرازق وكتابه حقهما من التنويه والتقدير، فقد دفع الرجل ثمنًا باهظًا لتأليف كتابه، ألمحنا سلفًا إلى بعضه، ومن ثم من حقه علينا أن نسجل له أنه كان سباقًا بهذا المؤلف، فأيقظ عقولاً كانت فد استنامت، وحرك المياه الراكدة.
التزم الشيخ فى كتابه الأصول المنهجية فى البحث، وساق الأدلة من القرآن والسنة على أن الإسلام برئ من نظام الخلافة، وتحدى أدعياء الخلافة أن يأتوا بحديث نبوى واحد صحيح يؤيد نظام الخلافة، وأخذ على ما روجه أصحاب فكرة الخلافة أنهم خلطوا خلطًا معيبًا بين مقام النبوة والرسول صلى الله عليه وسلم، وأضفوا هذا المقام على الخلافة والخليفة، وادعوا أن الخلفاء يقومون مقام الرسول عليه الصلاة والسلام، فى حفظ الدين وسياسة الدنيا، ومن ثم أنزلوا الخليفة من الأمة بمنزلة الرسول صلى الله عليه وسلم، وابتدعوا انه بما له على الأمة من الولاية العامة، والطاعة التامة، حق القيام على دينهم والقيام على شئون دنياهم، لأنه فى تصورهم نائب الرسول عليه الصلاة والسلام.
يحسب للشيخ على عبد الرازق، أنه حين ألف هذا الكتاب، لم تكن قد ظهرت بعد الكيانات التى بدأت فى الظهور منذ سنة 1928، واتخذت من الخلافة غاية للوثوب إلى الحكم، ولم تكن قد ظهرت الكيانات المتفرعة عنها كالدواعش الذين جعلوا يعلنون قيام دولة الخلافة الداعشية هنا وهناك فى البلدان التى ابتليت بهم.
لم يكن ذلك قد ظهر بعد حين كتب الشيخ مؤلفه، وكأنه قد قرأ الاحتمالات من واقع ما رآه عبر دراسته للتاريخ ورجوعه إلى ما كتبه ابن خلدون، عن تحول الخلافة إلى ملك عضوض، وبدء ظهور التوجهات الثيوقراطية التى ظهرت فى الدولة العباسية، وتجلت فيما فاه به أبوجعفر المنصور، الذى تجاوز الخطبة الثيوقراطية التى كان أخوه السفاح قد ألقاها بالكوفة، وادعى فيها أنهم يرثون الخلافة من النبى عليه الصلاة والسلام، ولهم ما كان له فى القرآن، فإذا بالمنصور ينتقل خطوة أخرى فى المفهوم الثيوقراطى للحكم، فيدعى أنه سلطان الله فى الأرض، وطفق يقول:
أيها الناس! إنما أنا سلطان الله فى أرضه، وأنا خازنه على فيئه، أعمل بمشيئته، وأقسمه بإرادته، وأعطيه بإذنه. فقد جعلنى الله عليه قفلاً، إذا شاء أن يفتحنى لأعطياتكم وقسم فيئكم وأرزاقكم فتحنى، وإذا شاء أن يقفله أقفلنى. فارغبوا إلى الله أيها الناس، وسلوه فى هذا اليوم الشريف، الذى وهب لكم فيه من فضل ـ أن يوفقنى للصواب، ويسددنى للرشاد، ويلهمنى الرأفة بكم والإحسان إليكم، ويفتحنى لأعطياتكم وقسم أرزاقكم بالعدل عليكم إنه سميع قريب!.
هذه الخلافة ، لا أصل لها فى الإسلام.
لمزيد من مقالات رجائى عطية رابط دائم: