رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

«عودة أمريكا»

عودة أمريكا هو العنوان الذى اختاره الرئيس الأمريكى جو بايدن لأول خطاب له بعد توليه المنصب, مثلما اختار أن يلقيه من مقر وزارة الخارجية وليس البيت الأبيض كما جرت العادة, وهى إشارة رمزية للأهمية التى ستحتلها المسائل الدولية فى سياساته القادمة وأولويتها لإدارته, كما تنبئ بالتغيير فى أسلوب تناولها والتعامل معها مقارنة بتوجهات إدارة سلفه دونالد ترامب, فقضايا الداخل كانت تاريخيا هى الفيصل فى التمييز الواضح بين الحزبين الكبيرين الجمهورى والديمقراطى لتبقى الفروقات بينهما خارجيا محدودة نسبيا, لكن الأمر يبدو مختلفا هذه المرة, خاصة مع اختياره لهذا العنوان اللافت, إضافة إلى تركيزه على قضايا الشرق الأوسط, ليحتل بذلك موقعا محوريا فى اتجاهاته الجديدة.

منذ سنوات وتحديدا خلال الفترة الثانية لولاية باراك أوباما, ثار جدل كبير حول تراجع أهمية منطقة الشرق الأوسط لدى الولايات المتحدة بعدما أعلن اعتزامه التوجه شرقا على حساب باقى المناطق, باعتبار أن الصين تشكل التحدى الأول تجاريا واقتصاديا, فضلا عن انخفاض الحاجة إلى نفط المنطقة لزيادة إنتاج بلاده من البترول الصخرى لدرجة تحقيق فائض منه للتصدير, ومن هنا كانت الرغبة فى الانسحاب من الدول الشرق أوسطية كأفغانستان والعراق وسوريا, وعدم التدخل بكثافة فى بؤر النزاعات به, وكانت حجته الرئيسية أن العالم بأسره قد تغير جوهريا عما كان عليه نهاية الحرب العالمية الثانية, إلا أنه وبمرور الزمن ثبت أن تلك الفرضية لم تكن صائبة, فتأمين إسرائيل, وهو ركن أصيل فى أى إستراتيجية أمريكية بغض النظر عن الانتماءات الحزبية, يظل مرتبطا بالإقليم, كما أن كل فراغ تتركه واشنطن سرعان ما تملؤه غريمتاها موسكو التى يزداد حضورها السياسى ونفوذها فيه, وبكين التى تستورد معظم احتياجاتها النفطية من الخليج, ناهيك عن كون المنطقة برمتها تُعد سوقا كبيرة لبضائعها, وهو ما حولها إلى ساحة للمنافسة الدولية يصعب التخلى عنها, يضاف إلى ذلك الاقليم مصدرا رئيسيا للتهديد الإيرانى وجماعات الإرهاب التى تستفيد من تفكك بعض دوله وتحولها إلى دول فاشلة تعتريها الفوضى, ما يجعل الانخراط فى مشاكله وقضاياه والسعى لاستقراره ضرورة لا مجرد اختيار.

فى هذا السياق يمكن تحليل مضمون خطاب بايدن الذى تناول فيه حرب اليمن، وطالب بضرورة إنهائها ووقف مجالات الدعم الأمريكى للعمليات القتالية, ومن ضمنها تعليق مبيعات السلاح المرتبطة بها والموجهة للتحالف العربى الذى تقوده السعودية هناك, دعما للحكومة الشرعية المعترف بها دوليا, والمعروف أن أمريكا كانت أكبر داعم للتحالف إبان فترة رئاسة ترامب وتمثل له مظلة دفاعية قوية بحكم التعاون العسكرى الوثيق والممتد مع الدول التى يتشكل منها, معللا ذلك بحجم الكارثة الإنسانية والإستراتيجية التى تسببت فيها تلك الحرب, وهو ما أكده مسئولو إدارته قبيل وبعد كلمته, كما جاء على لسان مستشاره للأمن القومى جاك سوليفان ووزير خارجيته أنتونى بلينكن, وإن كان التزم فى الوقت نفسه بمساندة المملكة فى الدفاع عن أراضيها وسيادتها ضد هجمات جيرانها, والمقصود بهم بالطبع إيران ووكلاؤها من الحوثيين الذين يستهدفونها انطلاقا من الأراضى اليمنية.

ولتحقيق الهدف ذاته, فقد تم رفع جماعة الحوثى من قائمة الإرهاب التى أدرجتها عليها الإدارة السابقة أواخر أيامها فى الحكم, تمهيدا لعقد جولات من الحوار مع أطراف الأزمة وإعطاء فرصة للجهود الدبلوماسية والتفاوض بحثا عن تسوية سياسية لها.

والواقع أن للحرب اليمنية بعدا آخر يتجاوز العمليات العسكرية والبقعة الجغرافية التى تدور عليها, ويختص بالعلاقة مع طهران وما أبدته الإدارة الحالية من اهتمام وعزم للعودة إلى الاتفاق النووى معها المعروف بـ (5+1) ولكن بشروط جديدة تتضمن إلى جانب برنامجها النووى مجمل سياساتها الإقليمية ومشروعها التوسعى فى المنطقة, فضلا عن إشراك العواصم الخليجية، وفى مقدمتها الرياض فى أى محادثات مقبلة والتى تجاهلها الاتفاق السابق, وهو ما يعنى محاولة التوصل لصفقة شاملة معها, على أساس أن السياسة العقابية والإقصائية التى اتبعها ترامب لم تأت بالنتيجة المرجوة منها وفقا للرؤية الأمريكية, بل زادت من عنادها وأفسحت لها المجال للتنصل من التزاماتها فى النسبة المقررة لتخصيب اليورانيوم والتى قد تؤهلها فى النهاية لامتلاك سلاح نووى, وكذلك تفاديا للقصور الذى شاب الاتفاق القديم الموقع 2015 فى عهد أوباما والذى فصل بصورة تعسفية بين هذا الملف ومقتضيات الأمن الإقليمى, وكلها أمور لا يمكن أن تتم فى ظل استمرار حرب اليمن التى تخوضها بالوكالة مثلما تفعل فى لبنان بتوظيفها حزب الله, لتتحكم فى توجيه مسارات الحرب والسلام.

بعبارة أخرى, إذا كان لدعوة إدارة بايدن بوقف الحرب وجه إنسانى معلن وصريح, اتساقا مع مطالب المنظمات الحقوقية الأمريكية, إلا أن ذلك ليس هو بيت القصيد ولا ينفى الأغراض السياسية غير المعلنة والتى قد تكون أكثر الحاحا فى المرحلة الراهنة لخدمة إستراتيجيتها الجديدة التى تعتمد على أكثر من عنصر, أولها الإقرار بالتدخل المباشر فى مناطق الصراعات بلعبها دور الوسيط الدولى, وثانيها أن تكون الأدوات الدبلوماسية هى الخيار الأول فى تهدئتها والوصول إلى تسوية بشأنها تجنبا لاستخدام القوة العسكرية وسياسة العقوبات القاسية التى أفرطت فيها الإدارة السابقة, وثالثها اتباع نهج احتوائى للدول المُصنفة بـ«المارقة» مثل حالة إيران لدفعها لتغيير سلوكها وإدماجها فى المنظومة العالمية والإقليمية.

لكن وعلى الرغم مما تبدو عليه هذه الافتراضات من بساطة ومثالية, إلا أنها فى الواقع شديدة التعقيد فى تنفيذها, وقد تستلزم إعادة ترتيب نمط التحالفات وعمل توازنات بين أطراف الصراع الذين هم دائما على طرفى نقيض, فكيف يمكن التوفيق بين الرياض وطهران على سبيل المثال, والمفارقة الكبرى تتعلق بإسرائيل التى تعتبر الأخيرة العدو والخطر الأول عليها, وماذا إذا لم تتوقف العمليات القتالية فى اليمن أو استمر استهداف المصالح السعودية من قبل الحوثيين وما قد يستتبعه من رد فعل؟ هل ستكون الدبلوماسية وحدها قادرة على حل تلك المعضلات، أم أن الأمر سيحتاج إلى قوة رادعة تدعمها؟ والأكثر من ذلك ما الذى سيدفع الجمهورية الإسلامية للقبول بالشروط الجديدة التى تربط برنامجها النووى بسياساتها الإقليمية, أخذا فى الاعتبار أن الفصل بينهما كان محفزها الحقيقى للدخول فى (5+1)؟

هذه كلها ليست مجرد أسئلة مطروحة, وإنما تشكل فى ذاتها تحديات أمام الإستراتيجية المزمع تطبيقها, لذا فأغلب الظن أن ينتهى الأمر بالمزج بين الأوبامية والترامبية إن جاز التعبير.


لمزيد من مقالات د. هالة مصطفى

رابط دائم: