منذ صدر كتابى: «دفاعًا عن العقلانية» عن الهيئة المصرية العامة للكتاب فى أواخر العام المنصرم، وتأتى إلىَّ أصداء أفكاره من القراء والمُهتمين بموضوعاته. وكان من أوائل المهتمين قناة: فرانس 24 التى أعدت معى حلقة عن الكتاب فى برنامجها: محاور الذى يقدمه الإعلامى والصحفى: وسيم الأحمر، ثم بعدها بأسابيع معدودة جاءتنى دعوة مُلحَّة من برنامج: الحكاية الذى يقدمه الإعلامى: عمرو أديب، على قناة M.B.C مصر وذلك لإقامة حوار حول القضايا الأساسية التى يطرحها هذا الكتاب. وبالطبع لم أكن أستطيع أن أرفض دعوة الأستاذ عمرو أديب لمناقشة الكتاب فى برنامجه الناجح، خصوصًا بعد أن وافقتُ من قبل على مناقشة أفكار الكتاب فى القناة الفرنسية المُذاعة بالعربية. واضطررتُ إلى مشقة تحمل البرد الشديد والخروج من المنزل لأذهب إلى مدينة الإنتاج الإعلامى بأكتوبر لأكون بصحبة الصديق عمرو أديب. وانتهى البرنامج فى موعده، وخرجتُ من مبنى استديو M.B.C وعدتُ إلى منزلى وظننتُ أن الموضوع قد انتهى عند هذا الحد، ولكنى فوجئتُ فى اليوم التالى بابنى يُهاتفنى ويخبرنى بأن هذا الحديث قد أصبح Trend على مواقع التواصل الاجتماعى، فسألتُه: وما معنى التريند فى هذا السياق؟ فرد علىَّ قائلًا إن: الحوار قد تجاوز عدد المشاهدين له والمشاركين فى التعقيب عليه على ما يزيد على مائة ألف مُشاهِد، ويمكن معرفة المشاركين على وجه التحديد إذا أردت. ولكنى قلتُ لابنى: لا يهم ذلك، الأكثر أهمية أن نعرف القضايا التى طُرحت للنقاش انطلاقًا من حوارى مع عمرو أديب وعودة إليه. وأخذتُ أتصفح بدورى التعليقات التى دارت حول ذلك، فوجدتها تدور حول قضايا عديدة كلها بالغة الأهمية فى حياتنا المعاصرة فى هذه الأيام على وجه التحديد.
وأول هذه الموضوعات، اتِّهامى بالعداء للأزهر. والحق أننى لا يمكن أن أعد نفسى مُعاديًا للأزهر بأية حال من الأحوال, فأنا من العارفين بمكانة الأزهر الوطنية عبر تاريخنا الحديث، كما أُدرك فى الوقت نفسه مكانة الأزهر فى تاريخنا الثقافى بوجهٍ عام، فهو قد جمع من مشايخ الاستنارة وروّادها من لا نزال نرجع إليهم وإلى أفكارهم إلى اليوم، وذلك ابتداء من الشيخ حسن العطار، أستاذ رفاعة رافع الطهطاوى الذى ذهب إلى باريس وعاد منها بكتابه: تخليص الإبريز فى تلخيص باريز، الذى كان بداية الفكر الإسلامى المستنير فى عصرنا الحديث، وذلك منذ أن قامت المطابع الأميرية بإصدار طبعته الأولى عام 1834، وكان ذلك فى عهد محمد على باشا مؤسس الدولة المصرية الحديثة. ولا أزال إلى اليوم أرى كتاب رفاعة الطهطاوى هو البداية التأسيسية التى حملت بذور الاستنارة واتجاهاتها العقلانية على السواء. وقد واصل الأزهر رسالته التنويرية بعد الشيخ رفاعة الطهطاوى، وذلك عبر حملة التنوير من المشايخ الذين أصبحوا لنا أساتذة وروادًا نستضىء بعلمهم ونمضى فى دربهم العقلانى. وإذا كنتُ قد بدأتُ بالشيخ حسن العطار وتلميذه النابغ رفاعة الطهطاوى، فقد جاء بعدهما الكثير من المستنيرين الذين جمعوا بين علوم الشرق والغرب، ومعارف الماضى وتحديات الواقع وأحلام المستقبل فى آن. ويكفى أن أذكر الشيخ محمود شلتوت، والشيخ عبد المتعال الصعيدى وغيرهما من مشايخ الاستنارة إلى أن نصل إلى كتابات المرحوم الدكتور محمود حمدى زقزوق الذى خصصتُ له جزءًا من الكتاب بدراسةٍ تأصيليةٍ. وقد جاءت دراستى للدكتور محمود زقزوق خاتمة لجهود الاستنارة الحديثة التى نادى بها الأزهر.
وطبيعى أن من يكتب هذا الكلام، ويؤكد الدور العظيم للأزهر فى تاريخ الفكر العربى الحديث ويؤمن به، لا يمكن أن يُتَّهم بأنه مُعادٍ للأزهر أو مُناقِض له على السواء. ولذلك كانت دهشتى بالغة عندما سألنى الأستاذ عمرو أديب عمّا رآه عداء منِّى للأزهر أو اختلافًا مُستمرًا معه. والحق أننى دُهشتُ لما رأيته اتهامًا بما ليس فى خَلَدِى وما يناقض كل الأفكار والقيم الإيجابية التى أنطوى عليها لشيخ الأزهر ولعددٍ من مشايخه الأفاضل والعلماء الثقات على السواء. ولا أدل على ذلك من أننى كنتُ أحد المثقفين الذين قبلوا دعوة شيخ الجامع الأزهر الدكتور أحمد الطيب بعد ثلاثة أشهر من ثورة يناير 25 واجتمعنا فى مكتبه مع مجموعة من المشايخ وكبار علماء الأزهر على رأسهم أستاذه وأستاذنا الدكتور محمود زقزوق. وقد استمرت لقاءات الأزهر وأثمرت مجموعة من الحوارات التى نشرها الدكتور صلاح فضل. ولا أُريد أن أُدلل على موقفى الإيجابى من الأزهر بأكثر من ذلك، لكن تقدير المرء لمؤسسةٍ من المؤسسات لا يعنى اتفاقه معها فى كل خطوةٍ تخطوها أو كل اتجاهٍ تذهب إليه، أو كل رأى يصدر عنها، فمن المؤكد أنَّ تقلُّب الحياة ومتغيراتها، خصوصًا فى مجتمع مثل المجتمع المصرى الذى مر بعواصف وأعاصير منذ الحادى عشر من يناير 2011 إلى اليوم، لا بد أن تقع فيه أحداث وأن تتخذ فيه مواقف يتقبلها كل مُثقف بالإيجاب أو السلب حسب طبيعة الأحداث أو الأفعال أو المواقف التى تتخذها مؤسسة الأزهر على المستوى العام أو الخاص، فما بالك إذا كانت هذه المواقف تمس عددًا من أخطر القضايا التى تتداخل فى حياتنا وتؤثر عليها بالإيجاب أو السلب، خصوصًا فى الحالات التى يتراجع فيها الأزهر عن تاريخه المستنير، وينقلب إلى مُعادٍ لهذا التاريخ، ومعارضٍ لمن يحاولون تذكيره بهذا التاريخ، أو على الأقل يُبدون رأيهم – وهذا حقهم وواجبهم – بوصفهم مثقفين أو مفكرين، خصوصًا عندما يتصل ما يراه الأزهر فى هذه المسألة أو تلك بمستقبل الأمة المصرية وطموحها فى تأسيس دولةٍ مدنيةٍ ديمقراطيةٍ حديثةٍ بكل معنى الكلمة.
وأعتقد أننا قد بايعنا الرئيس عبد الفتاح السيسى على أساس من وعده بتأسيس هذه الدولة ولا نزال نؤيده ونصدقه فيما يعدنا به من تأسيس دولة مدنية ديمقراطية حديثة. وأظن فيما عدا هذا، فأنا أحترم شيخ الأزهر وأُجله كل الإجلال، وأُكن له من الحب والصداقة والاحترام ما يليق بمكانه فى الدولة والمجتمع وحق الصداقة على السواء. وأعتقد أن الصداقة الحقة ينبغى أن تقوم على المُصارحة. فتشدد الخطاب الدينى للأزهر فى غير مناسبةٍ، وعقلية الاتباع التى تظهر نماذجها على نحوٍ مُتكررٍ، وضيق العطن الذى يحول دون سماحة الحوار، فينتهى إلى رفض المُختلف، هى مظاهر قد أصبحت تقيم عددًا من الحواجز بين أفندية الاستنارة وعددٍ من المشايخ الذين يقف على رأسهم شيخ الأزهر الذى نُجلُّه ونحترمه. ولماذا نذهب بعيدًا وقد طالَبَنَا شيخ الأزهر منذ عرفناه أن نُصارحه القول، وألا نتردد فى الاختلاف معه إذا كانت اختلافاتنا فى سبيل رفعة الدين الذى نعتز به، ونُحافظ على ما يشيعه من قيم الاستنارة وأحلام التقدم. ولستُ وحدى الذى يختلف مع كثيرٍ من مشايخ الأزهر أو قليل منهم.
لمزيد من مقالات د. جابر عصفور رابط دائم: