شبّهه الكاتب «يوسف شاكر» بأنه شخصية من النوادر، شخصية خلفّت وراءها كما هائل من الذكريات الجميلة والإبداعات الرائعة فى شتى المجالات، فى الأدب والفن والإنسانيات.كان الخميسى رحمه الله شاعراً وكاتباً، ومترجما، وقاصاً، ومؤلفاً مسرحياً وإذاعيا وسينمائيا وموسيقياً ومذيعاً، وصاحب مواقف مشهودة فى سجله الوطنى، ومغامراً وبوهيمياً مقاتلاً جسوراً وعنيداً وقاهراً للمستحيل، مهزّاراً، وراوية وظريفا وسميرًا لا يشق له غبار.
سيرة حياة عبدالرحمن الخميسى «نوفمبر 1920 أبريل 1987» عريضة حافلة بالتجارب والمتقلبات الحياتية والمتشابكة التى لم يسعفه الوقت كتابتها وتسليط الضوء على دوره الثقافى والإنسانى على امتداد نصف قرن من ثلاثينيات إلى الثمانينيات القرن الماضى, وعطائه الوافر لواحد من أبرز أعلام التى أسهمت فى تشكيل الضمير الوطنى والثقافى.
عوامل كثيرة شكلت وجدانه وبنيّته الثقافية والفنية،تناقض بين تكوين والدّيه،فالأب فلاح يقدس العمل والأم من مدينة بور سعيد، على قدر من الثقافة والتعليم،والدتها فرنسية، وحدة الخميسى فى طفولته قادته إلى قراءة القصص والأشعار والأساطير.
انفصال والده عن والدته، جعله يجابه الحياة بمعزل عن الرعاية والحنان والاعتماد على نفسه وتصريف شئون حياته والتزامه بالتقشف وتدبير حياته بالقليل،ُ فوّلد فى نفسه شعورا قويا بالوحدة والإدراك بأن حياة الإنسان بين يديه وعليه أن يصنعها بنفسه.
النقلة الكبرى التى حدثت فى مسيرة الخميسى، هى التحاقه بفرقة «أحمد المسيرى» التى تجوب مصر كلها، أعجب الخميسى بالعمل الجماعى بالفرقة، التى تعتمد على روح الارتجال مع تطعيم الأحداث بالواقع والعادات والتقاليد والمشكلات فى البلدة أوالقرية التى يعرضون فيها وكان الفنانون يتبادلون الحوار والنكات والقفشات مع الجمهور.
وكانت أولى مواهبه التى تفجرت ونضجت أثناء عمله بفرقة «المسيرى» فى التمثيل والاخراج والموسيقى والتلحين واكتشاف المواهب المدفونة،إلى جانب صقل موهبته.
فى الفرقة لم يكن ثمة فوارق اجتماعية أو وظيفية بين الفنانين والعاملين، وثوثقت علاقة الخميسى بنجار الفرقة «محمود شكوكو» الذى أفضى بسر دفين، إنه يتحرق شوقاً إلى التمثيل والغناء،فكتب له الخميسى بعض المنولوجات والأسكشات ولحنها ودربّه، وقدمها شكوكو ونجح، وهو من اختار له زيّه التقليدى والزعبوط المدبب والجلابية البلدى المخططة والعصا المعقوفة.
تعلم «الخميسى» عدة شخصيات ثقافية فى أوائل الأربعينيات تعرف «الخميسى» على شخصية مؤثرة فى حياة جيل كامل وهو الشاعر والصحفى «كامل الشناوى» الليبرالى عاشق الحرية والانطلاق والفكر الوسطى بين مختلف الأفكار والأيديولوجيات،هو من أنقذه من الصعلكة ألحقه محرراً أدبياً بجريدة أخباراليوم، واعتبر «الشناوى» الخميسى هو تجسيده الحى لأحلامه التى لم تتحقق، هو من عمّق فى ضمير «الخميسى» عشق الناس على اختلاف نوازغهم ومعتقداتهم بعيداً عن التعصب والمصادرة، وهو من أطلق عليه لقب «القديس» وروّج له.
صُنّف الخميسى ضمن عشرات الأدباء والفنانين فى صفوف القوى المؤيدة للديمقراطية فى أزمة مارس 1953، ورغم اعترافه بإنه لم يكن ماركسياً، بتكوينه المزاجى، وكما إنه لم يُقّولب أو يصنف الأيديولوجياً أو ينخرط فى التنظيمات السياسية أيا كان توجهها. ودفع الثمن من حريته واعتقل من مارس 1953 إلى ديسمبر 1956. آمن الخميسى مثل صديقه المفكر القومى «محمد عودة» بزعامة جمال عبدالناصر ومبادىء ثورة يوليو 1952. فى السجون التى تنقل فيها الخميسى ظل يذكرها عمره كله حولها من حياة قاسية إلى ألوان من التسلية والمتعة،ابتكر وألّف الأغانى ولحنها وغناها،ألف المسرحيات ومثلها مع المعتقلين السياسيين والجنائيين.
قدرة الخميسى الفذة على الغوص فى أعماق النفس واكتشاف مخبوءاتها من الجواهر الثمينة، ويمنحها فرصة الظهور والتألق، هكذا فعل مع الفنانة «سعاد حسنى» التى اكتشفها ودربها وقدمها بطلة فى فيلمه «حسن ونعيمة» عام، 1959، ومعها الوجه الجديد محرم فؤاد، وقدم وجوها لمعت منهم: فؤاد المهندس، صلاح السعدنى.
تشجع «الخميسى» إلى تحقيق ذاته كمخرج ومنتج سينمائى ومسئول عن العمل من الآلف إلى الياء وأن يكتب أدباً وفناً بلغة الكاميرا، ومن حظ الخميسى إن مؤسسة السينما التابعة للدولة نهضت للقيام بمهمتها على الوجه الأكمل.
أخرج الخميسى أربعة أفلام كتب لها القصة والحوار والسيناريو ووضع لها الموسيقى التصويرية، وهى: الجزاء عام 1965 وعائلات محترمة عام 1968، الحب والثمن 1970، زهرة البنفسج عام 1972.
انحاز الخميسى فى هذه الأفلام إلى قضايا الشعب ونضاله ضد المستعمر البريطانى، ونمط مغاير لم يعرف السينما المصرية، وكان يغامر ولا يستعين كعادته بنجمة أو نجم شباك،بل كان هو نفسه جديدا فى المجال.
لاينسى جمهورالسينما دور «الشيخ يوسف» فى فيلم «الأرض» عام 1969، ذلك الثورى المناضل فى ثورة 1919، وتدحرج به الحال وافتتح دكاناً فى القرية.
ورحل الخميسى إلى يافا بفلسطين للعمل فى إذاعة الشرق الأدنى بين عامىّ 1943: 1948 وعمل مذيعاً ومخرجاً ومؤلفاً ونال شهرة عربية وعرف بــ «الصوت الذهبى» رغم ذلك لبى دعوة صديقه «زكريا الحجاوى» الذى عمل مديراً اًلتحرير جريدة المصرى، التى فتحت زراعيها لشباب الكتاب وشيوخهم،تألق الخميسى فى الجريدة التى نشر فيها قصصه وترجماته مقالاته فى الثقافة والموسيقى، وآثارفيها المعارك الفكرية والثقافية، وألتقى بالزعيم جمال عبدالناصرمرتين.
بدأ الخميسى حياته الأدبية مبكراً شاعراً، يراسل المجلات والصحف منذ 1938 وفى عام 1958 أصدر ديوانين «أشواق إنسان»، «دموع ونيران» وأشاد بشعره.
أغترب الخميسى عن مصر،منذ السبعينيات، سافر إلى لبنان ثم العراق، وحط به الترحال فى موسكو، أقام بها ثلاث عشرعامًاً،منح خلالها وسام لينين للسلام عام 1980، تقديرًا كواحد من أبرز المبدعين والمناضلين فى العالم الثالث،وترجمت أشعاره الى الروسية ولغات آخرى، وقام بدور لمناصرة قضايا أمته ومناهضة الأستعمار والصهيونية، وكان سفيرا شعبيا لكل العرب، ساعيا لقضاء مصالحهم، وجامعا شمل فرقتهم، محتضنا كل وافد.
تضاعف المرض على الخميسى الذى عاش الحياة وتجرعها بحلوها ومرها، فرحل فى أبريل 1987، وكانت وصيته أن يدفن بجوار شجرة فى ريف المنصورة، فربما عاد عصفوراً يغنى بين أغصانها بلا قيود.
رابط دائم: