منذ ما يقارب العشرة أعوام هاتفتها تليفونيا واستئذنت لزيارتها فرحبت، ومضيت الى منزلها حسب العنوان التى أملته على وخاصمتنى الدروب فلم أذهب قط الى الهضبة الوسطى بالمقطم وظللت أكرر الاتصال عليها فتشرح لى الطريق برحابة صدر أخجلتنى، نزلت من السيارة فوجدت صرحا دافئا ذو فناء عامر ووجدتها تجلس مع 3 أطفال ولد وبنتين وسط مجموعة من كبار السن وكلما تقدمت نحوها خطوة باغتتنى بإبتسامة جاذبة تهدىء صخب نبضات قلبى ثم وجدت نفسى أعانقها بحرارة الملهوف إثر اغتراب طويل وفجأة ظهرت أصوات متلاحقة فهرولت بخطى متزنة لتجد أحد نزلاء الدار يبكى بعد عودته من العلاج فى المستشفى ويطلب منها أن تتصل على أبنائه بينما تربت هى على كتفه بذات الابتسامة وتصطحبه الى المائدة الصغيرة التى نجلس عليها وهى تقول: أهى الأستاذة الجميلة دى من جورنال الأهرام وجاية مخصوص علشان تشوفكم وإنت عارف بقى يعنى إيه الأهرام! وهدأ الرجل بينما طلبت هى من أحد الأطفال أن يحضر له حلوى وتمر وجلس ذاك الكهل يحدثنا عن ذكرياته مع الصحف وإنه كان دودة قراية وكان يحب أنيس منصور ومتابع جيد لعموده مواقف فضلا عن صندوق الدنيا لـ أحمد بهجت وكاريكتير جاهين والكثير من الكتاب العظام، وبعد أن تأكدت من سريان البهجة فى أوردته طلبت منه أن يذهب لغرفته حتى يستريح.
ثم علمت أن هذا المسن الطيب لا أحد يسأل عنه من ذويه مطلقا ويقطن دار أبى ويحاول الجميع أن يعوضونه عن أسرته، بينما الأطفال الثلاثة أحفادها، وهى تعلمهم مساعدة الغير وتزرع فى قلوبهم الرحمة.. ثم اخذتنى الى بيتها فى الوجهة المقابلة لجمعية الباقيات الصالحات التى تشمل دار أبى للرجال، ودار أمى للنساء ودار ضنايا للأطفال من مرضى السرطان الذين يحضرون من الأقاليم للعلاج ولا مأوى لهم ثم دار لعلاج الزهايمر ومسجدا.
دخلت بيتها وكأنه مسجد تفوح منه رائحة البخور وتزينه وحدات إضاءة مدهبة محفور بها آيات من القرآن ثم نادت خادمتها وقالت: احنا مش هنضايف الأستاذة، فين حلوى رمضان وخيراته.
ودار الحوار بيننا ودارت عقارب الساعة حى تجاوزنا 3 ساعات وأنا أسألها عن رأيها فى ظاهرة الشيوخ المودرن وكانت ترفض تماما مزج الدين بالسياسة، رغم فخرها بأن زوجها شهيدا فى حرب أكتوبر وكيف ثابرت وصبرت وربت بناتها ولم يعطلها هذا عن دورها التوعوى والدعوى، ووسط الحوار الذى كنت أعده للنشر فى الجورنال كنت أسالها بعض الأسئلة الخاصة فترد بطيب خاطر دون كلل من فضولى المعرفى وهى تبدأ اجابتها شوفى يا ضنايا.. ثم تواصل حديثها أصل يا حبيبتى.. ثم بنتى مفردات دافئة لمرحلة تقسم عليك بأنها أمك..وهو ما وطد علاقتنا من حينها وكنت حين أتعثر فى أى معلومة فقهية أو شخصية ألجأ لها فتنير نفسى وتنهال عليا بسيل من الدعاء المغزول بفرط الإخلاص والمحبة وكان هدفها الأوحد أن تتوسع فى مشاريعها الخيرية لـجمعية الباقيات الصالحات وأرسلت لى رسالة من كم شهر مفادها أنها لا تقدر على حيتان الإعلانات ونفسها تكبر الدور لتستوعب عدد أكبر.
إنها الداعية الإسلامية والإنسانية عبلة الكحلاوى ماما عبلة كما كانت تحب أن نناديها التى رحلت منذ أيام تاركة ما هو خير وأبقى.. السيرة العطرة والمحبة الجارية.
لمزيد من مقالات د.هبة عبدالعزيز; رابط دائم: