إن ديننا فى منابعه الأصلية واضح بذاته، والوحى الكريم كتاب مبين (قد جاءكم من اللّه نورٌ وكتابٌ مبينٌ) (المائدة: 15)، (الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين) (الحجر: 1)، (ونزّلنا عليك الكتاب تبيانا لكلّ شيء) (النحل: 89)، (وهذا لسانٌ عربيٌّ مبينٌ) (النحل: 103). واللسان العربى المبين هو لغة الوحي.
فهل يشك أحد أن الكتاب مبين وأنه واضح بذاته؟
وإذا كان الكتاب مبينا وواضحا بذاته، فهل الدين بحاجة للاستئناس بأساطير ومرويات موضوعة من حكايات الأولين؟ لكن من أسف درج الخطاب الدينى التقليدى على اللجوء إليها لتفسير الكتاب الكريم، ولم ينج من هذا مفسرون لهم ثقلهم ووزنهم، وتبرير ذلك عند بعضهم هو أنها للاستئناس! ولا يدرون أنها تؤثر تأثيرا بالغا فى تكوين تصورات القارئين لتلك التفاسير، وأنها تشوش عقائدهم بإضافات أسطورية، أو تمزج بينها وبين معتقدات الآخرين من الأديان الأخرى. وهذا أحد أسباب ابتعاد الخطاب الدينى التقليدى عن الوحى الكريم وعن الدين الأصلي، حتى أصبح الدين الأصلى منسيا ومحجوبا وراء منظومات الفرق والمذاهب.
وربما يتحجج بعض العلماء الذين يتساهلون فى سرد تلك الروايات بأنها لا يتعلق بها حكم شرعى فى أصلها. وهذه مغالطة كبرى، لأن هذه الروايات تمس المعتقدات والعقائد، وعندى وعند غيرى أن المعتقدات والعقائد تعلو الأحكام وتسبق قواعد العمل؛ وكما هو ثابت فى علم الأصول فإن التصور يسبق الحكم.
وإذا كانت المعتقدات تعلو الأحكام، فكيف يجوز الاستئناس بمعتقد ليس له أصل فى الوحى الكريم بحجة أنه لا يترتب عليه حكم شرعي؟!
وإذا تساهلنا فى ضبط وانضباط تصوراتنا وعقائدنا، فإن رؤيتنا للإنسان (رجلا وامرأة) وللعالم والواقع والله سبحانه، سوف تفسد. وهذا ما حدث بالفعل، حيث اختلطت الحقائق بالخرافات، وشكلت المرويات الضعيفة والموضوعة بخارا كثيفا وضبابا حجب عن نظرنا رؤية الطريق، فتعثرنا واصطدمنا ببعضنا البعض، ونزلنا للتعارك مَنْ منا المخطئ، وتركنا السير والمسيرة، بينما أخذت الأمم الأخرى بأسباب العلم والتقدم وضبطت رؤيتها للعالم والواقع وواصلت سيرها، بينما نحن نتعارك حتى الآن: مَنْ منا المخطئ؟!
والأمثلة التى ضربناها فى المقال السابق من تفسير ابن جرير الطبرى (جامع البيان)، وتفسير ابن كثير (تفسير القرآن العظيم)، ليست حالة عارضة، بل نهج فى أغلب التفاسير القديمة، التى وظفت المرويات الموضوعة والضعيفة وحكايات الأمم السابقة فى تفسير القرآن الكريم. وهو الأمر الذى أدى إلى خلط العقائد القرآنية بالعقائد الأخرى. واليوم نعطى أمثلة أخرى من تفسير له مكانته، وله مميزاته وعيوبه مثله أى عمل بشري، وهو تفسير القرطبى (المتوفى: 671هـ)، المسمى ( الجامع لأحكام القرآن)، حيث يسير على مسار اتهام حواء، يقول :«يقال: إنّ أوّل من أكل من الشّجرة حوّاء، بإغواء إبليس إيّاها - على ما يأتى بيانه- وإنّ أوّل كلامه كان معها لأنّها وسواس المخدّة، وهى أوّل فتنة دخلت على الرّجال من النّساء، فقال: ما منعتما هذه الشّجرة إلّا أنّها شجرة الخلد، لأنّه علم منهما أنّهما كانا يحبّان الخلد، فأتاهما من حيث أحبّا-«حبّك الشّيء يعمى ويصمّ»- فلمّا قالت حوّاء لآدم أنكر عليها وذكر العهد، فألحّ على حوّاء وألحّت حوّاء على آدم، إلى أن قالت: أنا آكل قبلك حتى إن أصابنى شى سلمت أنت، فأكلت فلم يضرّها، فأتت آدم فقالت: كل فإنّى قد أكلت فلم يضرّني، فأكل فبدت لهما سوآتهما وحصلا فى حكم الذّنب، لقول اللّه تعالى: (ولا تقربا هذه الشّجرة)، فجمعهما فى النّهي، فلذلك لم تنزل بها العقوبة حتّى وجد المنهيّ عنه منهما جميعا، وخفيت على آدم هذه المسألة» (تفسير القرطبى 1/ 307).
ويستمر القرطبى فى مسار ذكر المرويات الموضوعة والمكذوبة التى تفسر النص القرآنى بما ليس فيه، حيث يذكر عن «عبد الرّزّاق عن وهب بن منبّه: دخل الجنّة فى فم الحيّة، وهى ذات أربع كالبختيّة من أحسن دابّة خلقها اللّه تعالى، بعد أن عرض نفسه على كثير من الحيوان فلم يدخله إلّا الحيّة، فلمّا دخلت به الجنّة خرج من جوفها إبليس فأخذ من الشّجرة الّتى نهى اللّه آدم وزوجه عنها، فجاء بها إلى حوّاء فقال: انظرى إلى هذه الشّجرة، ما أطيب ريحها وأطيب طعمها وأحسن لونها! فلم يزل يغويها حتّى أخذتها حوّاء فأكلتها. ثمّ أغوى آدم، وقالت له حوّاء: كل فإنّى قد أكلت فلم يضرّني، فأكل منها فبدت لهما سوآتهما وحصلا فى حكم الذّنب، فدخل آدم فى جوف الشّجرة، فناداه ربّه: أين أنت؟ فقال: أنا هذا يا ربّ، قال: ألا تخرج؟ قال أستحى منك يا ربّ، قال: اهبط إلى الأرض الّتى خلقت منها. ولعنت الحيّة وردّت قوائمها فى جوفها وجعلت العداوة بينها وبين بنى آدم، ولذلك أمرنا بقتلها، على ما يأتى بيانه. وقيل لحوّاء: كما أدميت الشّجرة فكذلك يصيبك الدّم كلّ شهر وتحملين وتضعين كرها تشرفين به على الموت مرارا. زاد الطّبريّ والنّقّاش: وتكونى سفيهة وقد كنت حليمة. وقالت طائفةٌ: إنّ إبليس لم يدخل الجنّة إلى آدم بعد ما أخرج منها وإنّما أغوى بشيطانه وسلطانه ووسواسه الّتى أعطاه اللّه تعالى، كما قال صلّى اللّه عليه وسلّم: (إنّ الشّيطان يجرى من ابن آدم مجرى الدّم). واللّه أعلم. وسيأتى فى الأعراف أنّه لمّا أكل بقى عريانا وطلب ما يستتر به فتباعدت عنه الأشجار وبكّتوه بالمعصية، فرحمته شجرة التّين، فأخذ من ورقه فاستتر به، فبلى بالعرى دون الشّجر. واللّه أعلم. وقيل: إنّ الحكمة فى إخراج آدم من الجنّة عمارة الدّنيا. الثّالثة: يذكر أنّ الحيّة كانت خادم آدم عليه السّلام فى الجنّة فخانته بأن مكّنت عدوّ اللّه من نفسها وأظهرت العداوة له هناك، فلمّا أهبطوا تأكّدت العداوة وجعل رزقها التّراب، وقيل لها: أنت عدوّ بنى آدم وهم أعداؤك وحيث لقيك منهم أحدٌ شدخ رأسك...»، (تفسير القرطبى (1 / 312- 313).
نلاحظ فى هذا النص المفسر للقرآن عند القرطبي، وجود وهب بن منبّه الذى امتلأت التفاسير بقصصه وحكاياته التى ليس لها أصل فى الوحى الكريم ولا فى السنة الصحيحة، كما نجد حضور الحية كعنصر رئيس فى مسرحية الشر، كما نجد أن الحيوانات حاضرة وكأنها كيانات عاقلة يعرض عليها إبليس نفسه لتساعده فى دخول الجنة، وكلها ترفض إلا الحية. كما يتم تصوير الأشجار أيضا ككائنات عاقلة تتكلم!
وعلى النحو المعتاد يسير المسار الدرامى نحو حواء لتوظيفها ضد ادم لعصيان الأمر الإلهي، وينجح إبليس الشرير فى خداع حواء، ثم تقوم حواء بدورها مع آدم، فتقول له: «كل فإنّى قد أكلت فلم يضرّني، فأكل منها فبدت لهما سوآتهما وحصلا فى حكم الذّنب».
وهكذا يتم مواصلة تأكيد أمر ليس له أى ذكر فى الكتاب المبين، وهو أن أوّل فتنة دخلت على الرّجال كانت من النّساء!.
لمزيد من مقالات د. محمد الخشت رابط دائم: