رغم أن الصراع فى اليمن يعانى كغيره من الصراعات الدائرة فى الوطن العربى الجمود فإن الأمر لا يخلو من حين لآخر من تطورات تمثل خروجاً على مألوف هذا الجمود كما فى الاعتداء على مطار عدن نهاية ديسمبر الماضى ساعة وصول الحكومة اليمنية الجديدة إليه أو قرار ترامب الأخير بتصنيف الحوثيين جماعة إرهابية، وقد جاء القرار ضمن سلسلة قرارات اتخذها ترامب فى أيامه الأخيرة خلافاً لنظرية البطة العرجاء التى تصف حال الرئيس المنتهية ولايته فى المدة ما بين إعلان نتيجة الانتخابات وتنصيب الرئيس الجديد، والتى بدا منها كأنه يحاول رسم ملامح برنامجه السياسى فى السنوات الأربع القادمة، وقد لقى القرار ترحيب معسكر الشرعية اليمنية بطبيعة الحال لكنه أثار جدلاً أمريكياً ودولياً من المهم معرفة أبعاده لأنها تكشف عن تناقضات فى بعض المواقف الدولية وربما انتهازية بعضها الآخر، فعلى الصعيد الأمريكى وجه رئيس لجنة الشئون الخارجية بمجلس النواب و٢٥نائباً رسالة لوزير الخارجية الامريكى بومبيو طالبوه فيها بتوضيح حيثيات القرار معتبرين أنه سيفاقم بكثير أسوأ أزمة إنسانية فى العالم، ووصفه جيرالد فيرستين السفير الأمريكى الأسبق فى اليمن بأنه خطأ كبير ويمثل مشكلة لأمريكا أكثر من الحوثيين لتقليصه فرصها فى لعب دور إيجابى فى حل النزاع، بل إن مستشار بايدن للأمن القومى صرح بأن القرار سيعرقل الدبلوماسية الحاسمة لإنهاء الحرب، وامتد التحفظ إلى الساحة الدولية فحذرت منظمات إغاثة دولية من أن القرار قد يشل توصيل المساعدات الإنسانية لبلد يعتمد٨٠٪ من سكانه عليها، وانضم الاتحاد الأوروبى لمنتقدى القرار للاعتبارات الإنسانية ذاتها، وتنبأ وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشئون الإنسانية بمجاعة واسعة النطاق على نحو لم يُعرف من ٤٠عاماً بسبب القرار، مشدداً على أن الإعفاءات التى تقترحها واشنطن لمنظمات الإغاثة لن تكون كافية داعياً إلى إلغاء القرار، أما مارتن جريفيث المبعوث الأممى لليمن فقد أعرب فى إفادته الأخيرة لمجلس الأمن عن قلقه البالغ من تأثير القرار لأنه يخشى أن يؤدى حتماً إلى تثبيط الجهود المبذولة لجمع الأطراف، ولم يفته أن يؤكد للمجلس التزامه بالعمل مع جميع الأطراف بغض النظر عن القرار.
ومن الواضح أن ثمة تفسيرين لانتقاد القرار أحدهما إنسانى لتعويقه المتوقع للمساعدات والثانى سياسى لتثبيطه جهود الجمع بين طرفى الصراع، وفى هذا الإطار تغيب تماماً مسألة الشرعية بمعنى الإغفال التام لأصل القضية وهو أن الحوثيين قد انقلبوا بالتواطؤ مع الرئيس السابق على عبد الله صالح (قبل أن ينقلبوا عليه ويغتالوه) على واحدة من أشمل عمليات التحول الديمقراطى فى الوطن العربى وأكثرها اكتمالاً وهى مؤتمر الحوار الوطنى الذى عُقِد فى سياق تنفيذ المبادرة التى تقدم بها مجلس التعاون الخليجى لتسوية الانتفاضة الشعبية ضد نظام صالح، وتضمنت استقالته وتسليم السلطة لنائبه (الرئيس الحالي) ثم تثبيته بانتخابات يُعقد بعدها هذا المؤتمر، وقد عقد المؤتمر بالفعل (مارس٢٠١٣- يناير٢٠١٤) ومثلت فيه جميع القوى السياسية اليمنية بما فيها الحوثيون، وجرى فيه حوار ديمقراطى شامل وغير مسبوق وضع تصوراً توافقياً لحل أهم مشكلات اليمن وعلى رأسها قضيتا الجنوب والتمرد الحوثي، وتضمنت الحلول المقترحة تغييرات جذرية فى بنية الدولة اليمنية ونظام حكمها بما فى ذلك الانتقال إلى صيغة الدولة الفيدرالية والنظام الرئاسي، ووضع ضمانات حقيقية لحماية الديمقراطية، واتُفق على أن يتم وضع دستور جديد لليمن يجسد قرارات المؤتمر، وشُكلت لجنة لصياغة هذا الدستور على أن تُعرض نتائج عملها للاستفتاء الشعبي، وهكذا انفرد الصراع فى اليمن عن مثيليه فى سوريا وليبيا بأن أطرافه قد توصلت ديمقراطياً إلى رؤية شاملة للحل، وفى اللحظة التى اكتمل فيها مشروع الدستور قام الحوثيون فى سبتمبر٢٠١٤ بالتواطؤ مع النظام القديم بانقلابهم الذى حاولوا من خلاله السيطرة على اليمن بأكمله وهم الذين مُثلوا برضاهم بنحو ٦٪ من مقاعد مؤتمر الحوار الوطني، ونظراً لعلاقتهم العضوية بإيران فقد استجابت السعودية ومجلس التعاون الخليجى عدا عُمان لطلب الرئيس اليمنى التدخل العسكرى فيما عُرف بعاصفة الحزم، وهى خطوة اكتسبت أولاً شرعية عربية فى قمة شرم الشيخ (مارس٢٠١٥) وثانياً شرعية دولية بقرار مجلس الأمن٢٢١٦(أبريل٢٠١٥) الذى أدان الانقلاب وفرض عقوبات على قادته وحظر توريد الأسلحة والعتاد العسكرى لهم وطالبهم بوقف القتال وسحب قواتهم من المناطق التى سيطروا عليها ودعا إلى مؤتمر فى الرياض برعاية مجلس التعاون الخليجي.
غير أن عاصفة الحزم وإن نجحت فى منع سيطرة الحوثيين على كامل اليمن إلا أنهم صمدوا فى مواقعهم فى الشمال وأهمها العاصمة صنعاء، وربما ساعدت الغارات الجوية التى طالت مدنيين على زيادة شعبيتهم، ولوحظ بعدها تحول فى مواقف الشرعية الدولية ممثلة فى الأمم المتحدة ومبعوثيها لليمن الذين وافق أولهم (جمال بن عمر) على اتفاق السلم والشراكة الذى تضمن أول المكاسب السياسية للحوثيين، ودرج من خلفوه على وضع الحوثيين على قدم المساواة مع معسكر الشرعية متذرعين حيناً بالاعتبارات الإنسانية كما رأينا فى بعض ردود فعل القرار الأمريكى مع أنهم أول من يعلم أن وجود الحوثيين ذاته هو أكثر ما يهدد وصول المساعدات الإنسانية إلى مستحقيها كما رأينا فى ديسمبر٢٠١٨ عندما اتهمهم برنامج الغذاء العالمى بتحويل مسار المساعدات الإنسانية والاتجار فيها، وحيناً آخر بالحرص على التوصل إلى حل سياسى مع أنه لا المبعوثون الثلاثة الذين أُرسلوا إلى اليمن نجحوا فى إنجاز أى تقدم على طريق الحل ولا زملاؤهم الأربعة فى سوريا والثمانية فى ليبيا، وقد آن الأوان لإعادة الاعتبار لمسألة الشرعية اليمنية والتوقف عن تدليل الشرعية الدولية للحوثيين وكذلك لعمل جاد فى معسكر الشرعية اليمنية يعيد التماسك إلى صفوفه.
لمزيد من مقالات ◀ د.أحمد يوسف أحمد رابط دائم: