عشر سنوات مرت على بدء ما عُرف بظاهرة «الربيع العربي». مثل هذه الظواهر الكبيرة تحتاج في تقييمها إلى مدى زمني طويل نسبيا. كلما بعدنا عن لحظة بداية الظاهرة تحررنا من الجوانب القيمية والأخلاقية في دراستنا لها. ومن حسن الحظ أن «الربيع العربي» لم يكن ظاهرة فردية تخص دولة بعينها في المنطقة، لكنها شملت عددا غير قليل من دول المنطقة، اتسمت لحظة البداية فيها بدرجة معقولة من التباينات، خاصة فيما يتعلق بطبيعة الدولة، وطبيعة الأبنية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية القائمة، الأمر الذي يسمح بدراسة مقارنة حقيقية لدينامية عمل هذه الظاهرة في ظل بيئات مختلفة نسبيا، بهدف الوصول إلى استنتاجات أكثر تماسكا. الدراسة العلمية للظاهرة يجب أن تتجاوز فرضية أن «الربيع العربي» كان جزءا من «مؤامرة»، رغم أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال استبعاد وجود «المؤامرة»؛ فهي جزء من ظواهر العلاقات الدولية، كما لا يمكن استبعاد حضورها في ظاهرة «الربيع العربي» ذاته، فهناك العديد من الشواهد والكتابات التي يمكن استحضارها لدعم هذه الفرضية. لكن ليس هذا موضوع المقال.
إخضاع الظاهرة للدراسة العلمية يقتضي إخضاعها لتساؤلات علمية تسعى لإجابات محددة في إطار مقارن. من ذلك، على سبيل المثال، كيف انتهت حالات الربيع العربي في كل حالة؟ لماذا تباينت النتائج من حالة إلى أخرى؟ ما هي المتغيرات والعوامل الوسيطة التي لعبت الدور الرئيسي في الوصول إلى هذه التباينات؟ ومن ثم، ما أدوار الأبنية المؤسسية والاقتصادية والثقافية في كل حالة، وما هي طبيعة هذه الأبنية؟ وقبل ذلك لابد من طرح سؤال حول طبيعة الدولة القائمة ذاتها في كل حالة قبل بدء هذا الربيع، ومدى قابليتها للتدخل الخارجي بما في ذلك التدخل العسكري؟
الواقع يقول إن المنطقة توزعت على فئتين رئيسيتين؛ الأولى هي مجموعة الدول التي طالها الربيع العربي، وشملت تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن. في المقابل ظلت هناك مجموعة استطاعت أن تفلت من هذه الظاهرة. ومن ثم هنا سؤال مهم: لماذا استطاعت دول معينة أن تفلت من هذه الظاهرة، بينما وقعت فيها دول أخرى؟ الواقع يقول أيضا إن بعض دول «الربيع» سقطت -ومازالت- في براثن «الدولة الفاشلة» والحروب الأهلية والتدخلات الخارجية وصولا إلى التدخل العسكري، بينما نجت من هذه الظواهر جميعها دولة مثل مصر. هذا التباين المهم لا يمكن تفسيره إلا بالرجوع إلى متغيرات مهمة مثل طبيعة الدولة، وطبيعة الأبنية المؤسسية والاقتصادية والثقافية، وطبيعة النخبة أيضا. الدولة في مصر هي «دولة وطنية» بالمعنى الدقيق للكلمة، اكتسبت هذه السمة منذ لحظة التأسيس الأولى. وقد حافظ على استمرار هذه السمة التاريخية عاملان، الأول هو الجيش المصري الذي مثل، ليس فقط، رمزا للدولة الوطنية القوية وحافظا لها، لكنه مثل أيضا وعاء ومدرسة لصقل هذه الوطنية وتحويلها إلى جزء من الوعي التاريخي الجمعي. ولم يختلف الأمر بالنسبة لباقي المؤسسات، بدءا من مؤسسة الشرطة؛ إذ يَنْدُرْ أن نجد أي مظهر من مظاهر الانتماءات الجهوية أو الدينية في خطاب أو ممارسات أي من هذه المؤسسات. العامل الثاني، يتعلق بطبيعة النخبة المصرية؛ فرغم حرصها على التعدد والتنوع، ظل القاسم المشترك بين تياراتها المختلفة هو الإيمان بالدولة الوطنية، وذلك باستثناء شريحة محدودة ارتبطت بالتيارات الدينية «الإسلاموية».
خبرات الدول التي طالها «الربيع العربي» تقول لنا درسين آخرين مهمين. الأول، أن الإصلاح، وليس الثورة هو الطريق الآمن للتغيير. الثورات ترتبط بلحظات وطموحات مثالية، لكنها ترتبط بتكاليف اقتصادية وبشرية ضخمة، قد تصل هذه التكاليف إلى حد ضياع الإطار الحاكم للجميع وهو «الدولة» ذاتها التي مازالت هي الوحدة الأساسية التي تنتظم حولها المجتمعات الإنسانية وفقا لهويات أممية تشكلت عبر التاريخ. الثورة هي «لحظة مثالية» لبعض التيارات والحالمين بالتغيير الجذري السريع، لكنها أيضا لحظة مثالية للتيارات الانتهازية والمشروعات الخارجية وللتيارات والتنظيمات الإرهابية، لركوب هذه الثورات.
الدرس الثاني، أن القضية المركزية بالنسبة لمجتمعات المنطقة هي التنمية. لقد ثار جدل عالمي كبير حول العلاقة بين التنمية والديمقراطية؛ أيهما يأتي أولا، وأيهما يمثل الغاية وأيهما الوسيلة، وأيهما يمثل شرطا أو نتيجة. لقد تطورت مدرستان كبيرتان في هذا المجال. الأولى، ذهبت إلى أنه لا تنمية دون ديمقراطية، فالأخيرة تمثل شرطا ضروريا وكافيا لتحقيق التنمية. استندت هذه المدرسة إلى الخبرة الغربية بالأساس، وظلت هي السائدة، حتى جاءت الخبرات الآسيوية لتقول لنا إنه لا ديمقراطية حقيقية ومستديمة دون تنمية حقيقية مستديمة ومتوازنة، وأن التنمية هي شرط ضروري للديمقراطية. وقد استطاعت هذه الخبرات أن تبني نماذجها الخاصة التي تمثل -حتى الآن- فصولا مهمة في أدبيات التنمية الاقتصادية والسياسية. بالتأكيد فإن الخبرات الآسيوية ارتبطت بسياقات محلية ودولية محددة، لكن خلاصة هذه الخبرات، وخبرات الربيع العربي تقول معا إن الانحياز لمفهوم الإصلاح بالمعنى الشامل يقتضي إعطاء وزن معتبر للتنمية الاقتصادية والاجتماعية جنبا إلى جنب مع الإصلاح المؤسسي كمدخل لإصلاح آمن وحقيقي، وهذا هو جوهر النموذج المصري الذي تكرست ملامحه خلال السنوات الست الماضية.
لمزيد من مقالات د. محمد فايز فرحات رابط دائم: