من أهم الأحداث التى مرت بالعالم فى سنة الغلق 2020، ذكرى ميلاد الفيلسوف الألمانى جورج فيلهلم فردريش هيجل «1770 ــ 1831». وبالرغم من الارتباكات التى أحدثتها هذه السنة على عديد الأصعدة إلا أن هذا لم يمنع أن تحتفى الأوساط الأكاديمية والثقافية بهذه الذكرى وأن تصنع منها حدثا مميزا ممتدا على مدى العامين: الفائت والجديد...
فعلى المستوى الاحتفالى الشعبي، تم تجديد المتحف الذى يحمل اسمه فى مدينة شتوتجارت الألمانية بتكلفة تقترب من المليون دولار لتحديثه وفق التقنيات الرقمية الفائقة التقدم. وذلك لتيسير التعرف على حياة وأفكار وأعمال الفيلسوف الألمانى الكبير هيجل بصورة سلسة عبر المنصات التفاعلية المتنوعة والوسائل المتعددة الوسائط. وبالفعل اُفتتح المتحف يوم ذكرى ميلاده 27 أغسطس الماضي، بعد التجديدات، مجانا للجمهور.
أما على المستوى الفكري، فلقد شهدت الحياة الثقافية الألمانية والأوروبية حيوية فكرية وحوارية اتسمت بأمرين هما: أولا: استعادة تراث هيجل الفلسفي. ثانيا: مقاربة كثير من قضايا وإشكاليات حاضر الإنسانية اليوم فى ضوء العقل الفلسفى الهيجلى مثل: الحرية فى القرن الحادى والعشرين، مستقبل الحركة الاجتماعية، أحوال الدولة فى ظل الأزمات العالمية، سطوة قوة الرأسمالية على إنسان اليوم، الوجود الإنسانى فى ظل الجائحة الفيروسية، العالم الرقمي، أى دين فى عالم اليوم، أثر هيجل فى التيارات الفلسفية الأخرى كذلك بالمدارس النفسية، حضور هيجل فى العقل الفلسفى الراهن خاصة لدى تيار ما بعد ــ بعد ــ النقدى الراهن الذى تمثله الموجة الفلسفية الحالية فى العالم والتى يمكن اعتبارها موجة رابعة من موجات النقد الفلسفى التى انطلقت مع مدرسة فرانكفورت فى الثلث الأول من القرن العشرين والتى من أعلامها الحاليين: سلافوى جيجيك، وأكسيل هونيث، وغيرهما... فى هذا السياق، نشير إلى أهم الإبداعات التى صدرت سنة 2020 لتواكب هيجل ــ 250 وذلك كما يلي: أولا: علم وجود القوة الهيجلى وبنية الهيمنة الاجتماعية للرأسمالية. ثانيا: فهم الحركة الاجتماعية من منظور هيجل ومفاهيم الحق والوعى والفعل فى ضوء الحراك الإنساني/المواطنى فى المجتمع المدنى العام. ثالثا: من ماركس إلى هيجل وبالعكس: الرأسمالية واليوتوبيا. رابعا: هيجل ومدرسة فرانكفورت. خامسا: هيجل، ماركس، نيتشه: عالم من ظلال. إضافة إلى ما سبق أصدرت دار نشر بالجريف ضمن إحدى سلاسلها العديدة المعتبرة: دليل بالجريف إلى هيجل «650 صفحة فى السلسلة المتخصصة فى المثالية الألمانية». كما أعادت أكسفورد نشر دليلها حول هيجل «1000صفحة». كذلك أنجز الفيلسوف الأشهر فى العالم اليوم سلافوى جيجيك «وقد عرفنا به مبكرا فى أكثر من مناسبة» عملين مهمين بمناسبة هيجل ــ 250؛ فألف كتابا غاية فى الأهمية بعنوان: هيجل عقل شبكي، كما حرر، آخرا، بعنوان: هيجل ولاكان «عالم النفس الفرنسي، 1901 ــ 1981» ومستقبل المادية.والمتابع لجانب من هذه الحوارات من جهة، والقارئ للإصدارات من جهة أخرى سوف يدرك كيف أن الاحتفاء بشخصية فى مكانة هيجل تفتح آفاقا فكرية رحبة لتناولها، واختبار أهم ما تتضمن من أطروحات لعلها تمنح الإنسانية إجابات على ما يشغلها من إشكاليات ومسائل... فبحسب امام عبد الفتاح امام «1934 ــ 2019» المفكر الذى نذر حياته لشرح وترجمة نصوص هيجل وتأسيس ما بات يُعرف فى المكتبة العربية بالمكتبة الهيجلية، تقوم هذه المكانة ليس فقط لأنه: يشطر الفلسفة الغربية إلى حديثة ومعاصرة. أى كان بالفعل علامة فارقة فى تاريخ الفكر الإنساني. وإنما، أيضا، بحسب إمام، لأن فلسفة هيجل: تمثل اكتمالا وتتويجا للفلسفة الأوروبية من ديكارت إلى كانط، وهى فى الوقت نفسه، تقف فى مركز الصدارة من الفكر المعاصر بحيث إن كل تيارات الفكر المعاصر تجد نفسها مطالبة إما بمتابعته وإما بمعارضته. كما لايعود الأمر فقط إلى أنه الوريث الحقيقى للعقلانية ومطورها والدافع لها حتى حدودها القصوى فى المنطق الجدلى وهو الصياغة المنطقية الخالصة لهذه العقلانية وتطبيقاته فى مجالات الحياة والثقافة المختلفة: الحق، التاريخ، السياسة، الدين، الفن، الفلسفة،....وتأكيدا لما سبق، مازلت أذكر أول لقاء لى مع أفكار هيجل عبر المفكر المصرى الكبير صاحب موسوعة مشكلات فلسفية «ثمانية أجزاء» الذى غادرنا مبكرا الدكتور زكريا إبراهيم «1924 ــ 1976» من خلال سلسلة كتبه المعنونة عبقريات فلسفية التى أفرد ثانى كتاب منها للتعريف بفكر هيجل، كيف أن هناك توافقا بين محبى فكر هيجل ومعارضيه على أنه عبقرية ضارعت عبقريات أفلاطون، وأرسطو، وديكارت،...،إلخ، كما أن هيجل يشابه الإسكندر ونابليون من حيث طموحهما فى السيادة على العالم وإن كان بالعقل وليس بالقوة...ومن ثم ادراك أهمية هيجل وما طرحه من نسق فلسفى متنوع لمقاربة العالم بما يحمل من كليات وأجزاء وموضوعات وتفاصيل...وبالرغم من أن قراءة هيجل تتطلب جهدا مضاعفا من القارئ إلا أنها تعد مهمة ضرورية لكل: مثقف؛ لأن هيجل كتب فى السياسة والتاريخ والجمال والفن. كما أنه، بحسب ما جاء فى مستهل معجم أكسفورد لمصطلحات هيجل «لميخائيل أنوود ــ أستاذ الفلسفة بجامعة أكسفورد ــ وترجمة وتقديم وتعليق إمام عبدالفتاح إمام، الصادر عن المشروع القومى للترجمة», بحيرة عظمى تفرعت عنها جداول الفلسفة المعاصرة...وبالفعل فلم تزل هذه البحيرة جارية تتحدى العقل الإنسانى الراهن. ولعل القارئ للكتب الصادرة فى سنة 2020 حول فلسفة هيجل، التى أشرنا إليها، سوف يلحظ الاشتباك الفكرى البديع بين الأفكار الهيجلية والإشكاليات الراهنة ومدى الثراء الفكرى الذى سُطر فى هذه الكتب والذى يعكس التدافع الجدلى بين أطروحات مازالت تحتفظ بالأصالة والإشراق تتحدى العقل الإنسانى المعاصر فى أن ينقب ويبحث ويجتهد فى تقديم أطروحات جديدة لإنسان/مواطن الألفية الجديدة...تحية لهيجل، لن نقول فى ذكري، وإنما يوم ميلاده الـ 250...
لمزيد من مقالات سمير مرقص رابط دائم: