عندما يذكر أسم آجاثا كريستى، تفتح سيرة الأدب البوليسى، الذى كانت الراحلة من أعلامه البارزين. فبرعت فى صياغة حبكات رواياتها، حتى يقع القارئ فى حيرة بين ما إذا كانت الأحداث واقعية أو محض خيال. ويعتبر سر أسرار براعة كريستى وأقرانها من أرباب هذا الصنف الأدبى، هو إتقان رسم شخصية «المحقق» أو «التحرى» الذى يتولى حل الألغاز.
ومع حلول الذكرى الـ 45 لوفاة الكاتبة البريطانية آجاثا كريستى، التى رحلت فى 12 يناير 1976 عن عمر 86 عاما، يتأكد أنها تدين بقسط كبير من شهرة أعمالها التى تجاوزت الـ 66 رواية، إلى محققها الفطن هيركيول بوارو. وبوارو رجل بالغ الذكاء، صاحب شخصية فاتنة تدفع الكثيرين للبوح والإفصاح عما خفى. وقد ظهر فى 34 رواية وأكثر من 50 قصة قصيرة لكريستى. ووفقا للملامح التى وضعتها له كريستى، فإن بوارو تميز برأس بيضاوى وعينين خضراوين كعيون القطط. يمنح شاربه كثيرا من العناية، متأنق بشكل زائد فى ملبسه مما يشكل دائما مصدر سخرية وتسلية للمحيطين به.
غالبا ما يعمد بوارو فى حل الألغاز والقضايا إلى الملاحظة والتفكر، دون اللجوء إلى المجهود البدنى، بما يتوافق مع سمات شخصيته المتعالية والميالة إلى التأنق. ورغم تلك المحاسن كلها، إلا أنه كان كثيرا ما يستفز القراء ويثير حنقهم بثقته الزائدة فى نفسه. ولعل كريستى ذاتها قد ضاقت ذرعا ببوارو، حتى إنها ابتكرت شخصية جديدة تتولى عملية فك طلاسم الألغاز، وهى الأنسة ماربل.
كانت ماربل نقيض بوارو إلا فيما يخص الذكاء الحاد، وإن كانت أكثر حرصا بإلباسه عباءة من الهدوء والتواضع. فهى سيدة عجوز وتحرية مبتدئة. وإذا كانت تعتمد على الملاحظة الدقيقة أيضا، فإنها تزيد على بوارو بأنها أكثر إنسانية وتقاربا مع الشهود والمتهمين. جاء أول ظهور لماربل فى ديسمبر 1927، بالعدد الـ 350 من «المجلة الملكية» ضمن أحداث قصة «ملهى». وجاء ظهورها الأول ضمن أحداث رواية كاملة عام 1930. واقتصرت مشاركتها على 12 رواية من مجمل روايات كريستى. وقد كانت الأديبة البريطانية أكثر حدة فى التعامل مع بوارو منه إلى ماربل، إذ أقرت النهاية المحققة لحياة الأول ضمن أحداث رواية «الستارة».
وليست كريستى وحدها التى سعت لإنهاء حياة محققها بكلتا يديها. فالكاتب الاسكتلندى أرثر كونان لم يتردد أمام الشعبية الجارفة لمحققه الأشهر شارلوك هولمز، فقضى عليه قضاء مؤقتا. سبق هولمز بوارو فى السيطرة على اهتمام القراء حول العالم، إذ كان الظهور الأول له فى رواية «دراسة بالقرمزى»، وحصلت دار نشر «وورد لووك» على حقوق نشرها فى 20 نوفمبر 1886، مقابل 25 جنيها نالها كونان.استلهم كونان شخصية هولمز من أستاذ له فى الجامعة يدعى جوزيف بيل، حتى إنه كتب إلى أستاذه معترفا: «من المؤكد جدا أننى أدين لك بشارلوك هولمز». فهولمز يشبه بيل فى توظيف مهارات التحليل والاستنتاج والمراقبة بتأن. أما بالنسبة لمساعد هولمز، أو شخصية الدكتور واطسون، فهى أيضا مستلهمة من زميل لكونان يدعى روبرت لويس ستيفنسون .
ولكن العلاقة بين كونان وهولمز لم تكن على مايرام، فقد كان الأديب يشعر بالغيرة من سطوة محققه على القراء. كما أن الكاتب رأى فيه سببا فى استنزاف وقته وجهده، بما حال دون شروعه فى كتابات أخرى. فكان مقتل هولمز فى رواية «المشكلة الأخيرة» عام 1891. ولكن القراء لم يرحبوا بالفكرة، وظلوا على مدار ثمانية أعوام يطالبون بعودة محققهم المفضل. وتحقق مرادهم فى رواية «مغامرة المنزل الفارغ» عام 1901، عندما عاد هولمز بحجة أن مقتله كان حيلة لخداع الأعداء.
وعلى صعيد النصوص الفرنسية، كان لقب المحقق الأشهر من نصيب بدعة الأديب بلجيكى الأصول جورج سيمينون، ومحققه الشهير «مايجريت»، والذى يعتبره النقاد المعادل الفرنسى لهولمز. ويتسم مايجريت بالعناد الشديد، والنشاط، مع الحس الفكاهى العالى، والقدرة على التواصل الجيد مع البشر وتفهم طباعهم، كما أنه ذو قدرة على فرز الروائح والتعرف على سمات الأماكن من حوله ودراستها بسرعة ودقة.ويحكى جون سيمينون، نجل سيمينون الأب، عن مايجريت، أنه فى الأساس صامت ويعيش حياة زوجية هادئة ومستقرة. ويزيد الابن فى وصف المحقق الخاص بأبيه، فيقول إن والد مايجريت كان مديرا لأحد القصور فى بلدة لوفالوا- بيرى ، حيث ولد مايجريت عام 1887. وفى سن الثامنة، فقد والدته، فنشأ فى رعاية عمته.
وأثناء دراسته الطب، توفى والده، مما أجبره على الارتحال إلى باريس من أجل لقمة العيش، وهناك التحق بالشرطة، وتدرج فى مناصبها حتى رتبة «مفوض». واللافت فى شخصية مايجريت أن تفكيره كان يهديه إلى حل الألغاز وهو فى أوضاع غريبة، كما فى حالة تناوله مشروبا أو التسكع فى المطبخ.
وفيما يخص النصوص المصرية، يبرز نجم المحقق «سامى» فى سلسلة «المغامرون الخمسة» لمبدعها الراحل محمود سالم. توهجت موهبة سالم فى الكتابة للطفل داخل أروقة «مجلة سمير».و فى عام 1968، بدأ سالم فى إصدار سلسلة مغامرات شهرية للأطفال، فترجم عنوان سلسلة إنجليزية هى : The Famous Five، واقتبس فكرتها، إذ كانت تتناول قصة خمسة أطفال يخوضون مغامرات. فكان لقاء القراء فى مصر مع «المغامرون الخمسة»، وهم: تختخ، ومحب، وعاطف، ونوسة، ولوزة يقطنون فى المعادى ويساعدون الشرطة فى حل الألغاز. وصدر العدد الأول من السلسلة بعنوان «لغز الكوخ المحترق» لتستمر فى الصدور شهريا حتى عام 1972. وكان البطل بجوار المغامرين الخمسة، المفتش سامى، وهو مثال لرجل الشرطة القوى، الذكى، والشجاع. انتقل بعد ذلك محمود سالم إلى بيروت، وبدأ فى إصدار سلسلة «الشياطين الـ 13» التى تضم مغامرين من كل أنحاء الوطن العربى يتصدون لمؤامرات تقودها أجهزة مخابرات أجنبية تهدد سلامته , ثم عاد إلى مصر فى ثمانينيات القرن الماضى، واستمرت سلسلة «الشياطين الـ13» تصدر من القاهرة عن دار الهلال، حتى منتصف التسعينيات. وعاد سالم لإصدار أعداد جديدة من «المغامرون الخمسة» اعتبارا من عام 2010، وذلك حتى وفاته فى 2013.
رابط دائم: