رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

متى يغضب المسلمون.. وكيف يغضبون؟

انطلق حديث ماكرون عن دعمه لحق الصحف الفرنسية فى نشر الرسوم المسيئة من خطاب المركزية الغربية التى تعطى لنفسها الحق المطلق فى ترتيب القيم والمعايير. إنه المعلم الأوروبي، يلقي محاضرات عن حرية التعبير، علي الشرق / المسلم، والمفترض أن يتلقاها طائعا ويحفظها صما لتحقيق النجاح فى اختبار التمدن. لكن ما جرى فعليا هو أن هذا الشرق المسلم (المعتز بمقدسه وتاريخه وهويته رغم تخلفه الراهن) أبدى تمردا وغضبا من الأستاذ، فهل كان محقا فى غضبه أم أن الاستنارة تفرض عليه الصمت إزاء ما يراه إهانة لنبيه صلي الله عليه وسلم وإلا صار ظلاميا؟. دون مواربة للمسلمين كل الحق فى غضبهم إزاء المساس بمقدسهم بشرط عقلانية الغضب حتى لا يتورطوا في إرهاب عبثي يسىء إلي دينهم أكثر مما يفيده كما حدث في باريس ونيس وفيينا من أقليتهم.

تفرض علينا عقلانية الغضب وبلاغة المواجهة الوعي بطبيعة المشكلة. وهنا يتعين إدراك أمرين أساسيين: أولهما أننا لسنا في حرب دينية بين الهلال والصليب، تمت للماضي القروسطوي كما يتوهم بعض المسلمين، فالعلمانيون الراديكاليون المتورطون فى تدنيس المقدس الإسلامي لا يعنيهم المقدس المسيحي، ولا يشعرون بالغيرة عليه لأنهم لم يتربوا عليه ولم يخبروا التجربة الروحية من داخلها. بل إن عموم الأوروبيين لا يذهبون إلى الكنائس، إلا فى حدود تراوح بين 10 ، 12%، والباقين إما ملحدين صراحة وإما مؤلهين على طريقة أرسطو حيث الإله مجرد محرك أول للكون خلقه واستقل بعيدا عنه، أو ربوبيين على طربقة فولتير، يؤمنون بإله خالق دون التزام بشريعة محددة، أو لا أدريين أو حتى غير مبالين أساسا. ولعلنا لاحظنا أن المسيحيين المتدينين كانوا أقدر على تفهم غضب المسلمين باسم الإيمان الإبراهيمي، مثلما كان العلمانيون المعتدلون قادرين على تفهم الغضب نفسه ولكن باسم النزعة الإنسانية. ولذا لم يكن غريبا أن يعبر بعض رجال الدين المسيحي، ومنهم رئيس أساقفة تولوز في فرنسا، عن رفضهم الصريح الإساءة للإسلام كونهم يعانون غطرسة العلمانية الراديكالية فيما يخص السيد المسيح. وهو الموقف ذاته الذي عبرت عنه من شاطئ العلمانية المعتدلة، المستشارة الألمانية إنجيلا ميركل، ورئيس وزراء كندا، ورئيسة وزراء نيوزيلاندا، وغيرهم من ساسة ومثقفين دعوا إلى حرية تعبير تقوم على الاحترام المتبادل والتسامح الكامل، ولا تستخدم وسيلة لإفشاء الكراهية أو احتقار الآخرين.

وثانيهما أننا نعيش بالفعل صدام تطرفات يقع على محور الاحتكاك بين العلمانية الراديكالية والتدين المتعصب. تتطرف العلمانية عندما ترفع حرية التعبير إلى سوية المطلق في مواجهة المقدس الديني، فى الوقت الذي تبدى فيه ترددا إزاء المقدس الوضعي، وخاصة المتعلق بأحداث تاريخية على منوال المحرقة النازية لليهود (الهولوكوست)، حيث تمنع قوانين الجمهورية الفرنسية، خصوصا قانون (ليكرا) التشكيك في الرواية السائدة عنها، خصوصا عدد ضحاياها الضخم (6 ملايين)، بل تنظر إلى المشككين فيها باعتبارهم عنصريين، معادين للسامية، وهو الاتهام الذي واجه المفكر الفرنسي روجيه جارودى نهاية القرن الماضي، وكثيرين قبله وآخرين بعده. يحلو ذلك لعلمانية فائقة تعتبر تقديس ما هو وضعي وتدنيس ما هو مقدس بمثابة انتصار للإنسان أو للعقل أو للحرية، ولو على حساب الإلوهية والغيب والعقيدة. وفى المقابل يتطرف المتدينون المسلمون عندما يرفعون بعض أنماط تدينهم إلى سوية الدين نفسه، على نحو يعوق اندماجهم في الحياة الأوروبية عموما والفرنسية خصوصا، ويبديهم معادين للقيم العلمانية المعتدلة نفسها. صحيح أن ثمة مشكلات حقيقية تعوق اندماج المسلمين فى مجتمعاتهم الأوروبية، لا يملكون لها حلولا كالفقر والتهميش اللذين يضغطان علي المهاجرين حتى الجيل الثالث، وهو ما تدركه الحكومة الفرنسية وتسعى، وإن دون جدية، لمعالجته خصوصا بعد أن صارت الضواحى الباريسية مصدر توتر ومنبع احتجاج. ولكن فى المقابل هناك مشكلات ثقافية مفتعلة على رأسها قضية اللباس، خصوصا النقاب الذي فجر أزمات وأدي إلى شحن نفسي متبادل. والحق أن لفرنسا الحق في تجريم ارتدائه لدواع عديدة على رأسها البعد الأمني، ولا يحق للمسلمين رفض ذلك التوجه، لأن ذلك اللباس مجرد عادة سلوكية (بدوية)، لا يؤكدها نص ولا تفرضها شريعة، والمفترض من كل ضيف أن يحترم ثقافة وقانون البلد الذي يستضيفه مادام خليا من التعسف، وإلا فليعد إلى وطنه ليمارس غرائبه فيه، وهكذا نوفر طاقة غضبنا ومشروعيته للقضايا التي تستحق.

بوضوح واختصار، نصر على حقنا في الغيرة على ديننا والغضب لمقدسنا، ورفضنا لجور العلمانية الفائقة وإصرارها على تصفية العالم من كل ما هو روحاني أو مقدس، في مقابل تمجيد لبعض ما هو وضعي وتاريخي خضوعا لملابسات سياسية ضاغطة. ولكننا سنرفض بإصرار أكبر كل عمليات الإرهاب التي جرت سلفا ولا تزال، كونها تعكس فهما بدائيا لمشكلتنا مع الغرب، وتخلق أزمات أكثر مما تخلق حلولا، فيما يقتضى الفهم العصري للمشكلة ردود فعل مغايرة كالجدل الفكري والتوبيخ الأخلاقي، ولا مانع من ممارسة حق التقاضي القانوني مع أولئك الذين يصرون على الخطأ، أو حتى المقاطعة التجارية المدروسة لدول ترعى الإساءة رسميا، فجميعها وسائل سلمية ومتحضرة لإدارة التناقضات، لعلها أتت ثمارها بالتراجع الهادئ لكن الواضح، في الخطاب الاستعلائي للرئيس ماكرون، ولذا لا يمكن إدانتها أو السخرية منها كما فعل البعض سواء من أصحاب العقل البارد، الذين لا يقدرون حرارة التجربة الإيمانية ويتعالون علي الخبرة الروحية، ومن ثم ينظرون إلى التطرف بعين واحدة تركز على الديني وتتجاهل نظيره العلماني، على نحو يثير حنق المتدينين ويستفز المتشددين. أو من المصابين بعقدة نقص حضارية إزاء الغرب، أولئك الذين يباركون كل أفعاله ولو وقعت من المتعصبين شذاذ الآفاق، ويتشدقون بكل أفكاره ومفاهيمه ولو لم يعرفوا تاريخها ومسارات تطورها، أو يميزوا بين الأساسي والهامشي فيها.

[email protected]
لمزيد من مقالات صلاح سالم

رابط دائم: