ابتعدت نيوزيلاندا لفترة طويلة مضت عن اهتمام الإعلام الدولي، وإن بقيت مصدرا أساسيا لتحديد أسعار لحوم الضأن، ومنتجات الألبان فى الأسواق العالمية أولا بأول. وملأت السمع والبصر عند وقوع مجزرة بلدة كرايست تشيرش، التى راح ضحيتها أكثر من 50 مصليا فى مسجدين بسلاح متطرف عنصرى يميني. منذ ذلك الوقت، التفت العالم إلى شخصية سياسية من طابع فريد، وهى جاسيندا آرديرن رئيسة الوزراء. أدارت هذه الأزمة وغيرها بثبات تحسد عليه، واتخذت من القرارات ما يتطلب أعواما، وكثيرا من اللغط، فى بلاد أخرى تحتل أخبارها مساحات كبيرة من تغطية وسائل الإعلام على مدى الساعة.
ولفت أدائها الهاديء وشعبيتها الجارفة أنظار المحلل السياسى برايس إدواردز، فعكف على تحليلهما من منظورين أكاديمى واجتماعي، ولخص ما توصل إليه فى مقال رشيق نشرته صحيفة الجارديان البريطانية قبل أيام. وتنقل السطور التالية أبرز ما جاء فى ذلك المقال.
انطباعات سطحية خاطئة
دأب سياسيون أجانب على وصف جاسيندا آردن، بشخصية سياسية تقدمية، تتبنى الفكر الاشتراكى إلى حد بعيد. وصورها الإعلام الغربى كنموذج مناقض تماما لقيادات عالمية معروفة تعتبر أكثر ليبرالية، أو يمينية، مقارنة بغيرها. أما المفكرون وأنصار المدرسة السياسية التقدمية ،فاعتبروها نموذجا رائدا يمكن التعلم منه، بل ومحاكاته، من أجل بناء جبهة عالمية جديدة لليسار السياسى الآخذ فى الانزواء.
يرى برايس إدواردز، أن هذا كله يشكل مجرد انطباعات سطحية عن الشخصية التى نحن بصددها. وفى المقابل، ينسب إليها فضل بناء مدرسة سياسية جديدة تعتمد فى الأغلب الأعم على إدارة الأزمات بكثير من الثبات الانفعالى والتحفظ، ويعتبر ذلك مفتاح نجاحها السياسى فى أوساط حزب العمال النيوزيلاندي، ووصولها إلى زعامته بلا منازع. وكانت آرديرن قد قادت الحزب فى عام 2017 وهو يعانى أزمة حقيقية عكستها شعبية لا تتخطى نسبة 24% من أصوات الناخبين. بعدها بأسابيع، اضطرت إلى الدخول فى ائتلاف سياسى مع أحزاب أخرى لرئاسة الحكومة. وفى الانتخابات العامة الأخيرة، انتزع حزب العمال 50% من أصوات الناخبين، فتمكنت من تشكيل حكومة بمفردها فيما وصف بانتصار تاريخى للحزب، وشهادة تقدير شعبية لجهدها فى إدارة مختلف الأزمات التى شهدتها البلاد فى الأعوام الأخيرة. ويعنى هذا أن السواد الأعظم من المواطنين العاديين، يميل إلى المنهج المحافظ الذى تبنته بذكائها، بعيدا عن أى تشدد حزبى أو نزعة شعبوية . وماذا تريد الشعوب أكثر من هذا: حكومة مستقرة يمكن الوثوق بها، فى شتى الظروف.
شهادة نجاح محلية
حظيت جاسيندا آرديرن بتقدير المعلقين السياسيين اليمينيين، وبدت فى أعينهم ذلك الزعيم الذى يتمنونه لقيادة الحزب الوطنى (المحافظ) ممثل اتجاه الوسط المنافس !. وحكم المحافظون البلاد عقودا بمنهج يمينى ثابت. بمعنى آخر، أنها باتت أعلى منزلة من أى سياسى آخر فى البلاد، بل يتعذر على القيادات الأخرى مجاراتها ومنافستها. ولخص ديفيد سايمور زعيم أحد أحزاب اليمين المحلية القوية الصورة فى العبارة التالية: «إنها ماهرة فى قراءة مزاج الجماهير والخروج برسائل توحدهم. لقد أبلت بلاء حسنا ثلاث مرات حتى الآن: بعد مجزرة كرايست تشيرش، وبعد انفجار بركان وايت أيلاند، وفى خلال أزمة جائحة كورونا الحالية. إنها زعيمة سياسية من الطراز الأول».
وإذا أخذنا فى الاعتبار الوضع الراهن فى نيوزيلاندا، لن يجد المرء أفضل من ذلك الوصف على لسان زعيم سياسى منافس. فالمواطنون يتأهبون لتمضية عطلات عيد الميلاد ورأس السنة الجديدة، دونما إجراءات احترازية مزعجة تقيد حركتهم، وتحظر تجمعاتهم لدواعى فيروس كوفيد-19. ويرى المواطن العادى أنها نجحت فى إنقاذ آلاف الأرواح من خطر الوباء القاتل، وحافظت على الاقتصاد فى آن واحد. وكانت آرديرن قد تبنت المنهج العلمى بحذافيره، بمجرد ظهور الجائحة فى مارس الماضي، فأمرت بفرض إغلاق صارم تفوق قيوده ما اتبعته دول أخري. وأدى هذا إلى احتواء الخطر فى مهده، واكتسابها شعبية كاسحة. ووحد ثباتها الانفعالي، وأداؤها المحافظ بقية الأحزاب من شتى التوجهات السياسية برغم بعض الاعتراضات المفهومة على إجراءات الإغلاق الشامل. وعلاوة على هذا كله، أشاد رجال الأعمال ومديرو الشركات الكبرى بمنهجها، إذ حرصت على عدم فرض ضرائب إضافية على أرباب الأعمال والموسرين بعكس المنهج المعلن لحزبها.
وتتويجا لهذا النجاح، قرر ناخبو الحزب الوطنى (المنافس) التصويت لمصلحة حزب العمال بزعامة آردن فى الانتخابات العامة التى شهدتها البلاد فى أكتوبر الماضي، بهدف منحها تفويضا جديدا لإدارة البلاد. ويتندر سياسيون على هذه الظاهرة بوصف رئيسة الوزراء بسياسية محافظة، لا يسارية كما يشير النهج الأيديولوجى المعلن لحزبها. ولعل الأمر أبسط من ذلك، لنقل إنها تمثل الجناح اليمينى داخل حزبها، أو إنها استعارت سياسات الحزب المنافس ومنهجه، لتحقيق النجاح. وبغض النظر عن هذا كله، فإنها تمتلك ما يفتقده بقية السياسيين المشاعر.
تدفق المشاعر الفياضة
فى أوج الأزمات التى واجهتها البلاد، تحلت آردن بثبات انفعالى لا يضاهيها فيه سوى العسكريين، ولكن هذا الهدوء لا يكفى لاكتساب تلك الشعبية الجارفة. فقد بنت رابطة من الثقة مع مواطنيها بفضل المشاعر الصادقة التى تظهرها فى وقت الأزمة، أو لنقل التعاطف. وبدا ذلك بوضوح وقت مجزرة كرايست تشيرش فى مارس 2019، فاصطف المواطنون وراءها بغض النظر عن الميول السياسية، لتنجح فى حشدهم لمكافحة أى نعرات عنصرية تستند إلى الدين، أو العرق، أو اللون. ومكنها هذا من سرعة إقرار التشريعات اللازمة لمكافحة حيازة الأسلحة النارية الهجومية.
ومن جهة أخري، عمدت آرديرن إلى ترك القضايا الخلافية ليحدد مصيرها المواطنون بأنفسهم، من خلال توافق عام يمكن التوصل إليه عبر الاستفتاءات الشعبية. وتقول فى هذا الصدد إنها «سياسية عملية وإن كانت مثالية الأهداف». ويتصدر هذه القضايا الخلافية مسألة تقنين تعاطى مخدر الحشيش، كما هو الحال فى بعض دول شمالى أوروبا.
وختاما، يمكن القول إن اليسار فى نيوزيلاندا عاش عاما من النجاح والشعبية الكاسحة فى عام 2020، بفضل آرديرن. ولكن هذا التقييم قد يبدو سطحيا، فقد نجح اليسار بفضل منهج المحافظين الذى استعارته رئيسة الوزراء من الحزب الوطنى دون جلبة تذكر.
رابط دائم: