رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

يوميات فرنسية

شاءت الأقدار أن أشد رحالى إلى فرنسا للعلاج فى ظروف صعبة بعد أن أرهقنى نظام صحى بلا معايير بحثا عن نظام صحى أكثر رحمةً فى معاييره وتكلفته. حاولت التملص من السفر مرارا لكن أرغمتنى عليه فى النهاية رفيقة عمر لم تعرف فى حياتها سوى العطاء، وابنةٌ بارةٌ تركت مدينة دراستها وعملها فى الشمال لتلازم أبويها كالملاك الحارس. كان عسيرا فى البداية الحصول على تأشيرة دخول إلى فرنسا برغم المسعى الكريم للأخ النبيل دكتور مصطفى الفقى الذى اكتشفت فيه خصلة فريدة هى أن هذا الرجل لا يصد ملهوفا بل يستمتع بقضاء حوائج الناس لينطبق عليه الحديث النبوى الشهير. ولم يغب عن الانشغال بهمى والتواصل معى أخى العزيز دكتور أحمد يوسف أحمد خصوصا حين تعقدت وطالت إجراءات الحصول على الفيزا. وحين وطئت قدماى مطار شارل ديجول كان لديّ فضول التأمل عن قرب فى الحالة الفرنسية المسكونة بالتوتر الاجتماعى فى أجواء الإسلاموفوبيا والانعزالية، فضلاً عما عرفته فرنسا منذ عام باندلاع حركة السترات الصفراء وما أعقبها من تظاهرات تالية عنيفة على خلفية مشروعات قوانين مثيرة للجدل.

فى اللحظات الأولى لدخول أى مطار تبدو الحواس مستنفرة لالتقاط أصغر التفاصيل. ثمة نظام وهدوء، وسيدات ورجال أمن موزعون فى جميع الأركان لإرشاد القادمين برغم اللوحات التوضيحية المنتشرة فى كل مكان. ما بدا لافتاً هو بشاشة ما على الوجوه برغم وطأة وباء كورونا على النفوس، وتقاليد التحية المهذّبة التى يبدو أن الفرنسيين حريصون عليها فى مواجهة سيدة تضع غطاء رأس مثل زوجتى لتبديد أى هواجس أو ظنون. أما عن فحص فيروس كورونا لدى القادمين فكان إجراء شديد التنظيم والتهذيب وكأنك داخل فندق وليس داخل مطار. مجموعة شابات وشبان فى عمر الزهور، ربما كانوا متطوعين، توزعت أدوارهم بشكل منظم بين مسجلى بيانات القادمين، والقائمين على الفحص، ثم من يأتى ليسلمك بأدب جم نتيجة الفحص خلال عشرين دقيقة لا أكثر. وبالنظر لما تشهده فرنسا من مساجلات حول العنصرية والانعزالية كان ينتابنى فضول شديد لمعرفة مدى انعكاس ذلك على الحياة اليومية. فى المرات القليلة التى تجوّلت فيها رأيت فتيات وسيدات مسلمات بغطاء رأس فلم ألحظ ما يشى بالعنصرية أو التنمر، بالطبع هذه مسألة يصعب قياسها لمجرد التجوّل عدة مرات فى الشوارع أو المحلات لكن خلال إقامتى فى المستشفى لاحظت بشكل مباشر مستوى التعامل الودود بالغ التهذيب من جانب الفرنسيين، وفى معمل التحاليل الطبية بدا الأمر لافتاً ابتداء من تكلفة التحاليل التى لم تزد كثيراً على ما أدفعه فى مصر برغم الفارق بين مستوى الدخل فى البلدين، ولم يصمّم أحد على وجوب تسديد فاتورتى نقداً متملصاً من قبول الدفع ببطاقة الائتمان! حتى الحوار السريع الدافئ مع السيدة الفرنسية التى أجرت لى تحليل الدم وفحص فيروس كورونا وهى تقول إن الناس يكفيها معاناتها الحياتية بسبب البطالة وصعوبات المعيشة وليست بحاجة فوق ذلك إلى عنصرية أو كراهية.

نقاشات المجتمع الفرنسى محتدمة وثرية كالعادة، وما زالت قضية العنف وعلاقة المجتمع برجال الأمن موضوعا مثيرا للجدل. فى مدينة جرونوبل أعلن 130 رجل شرطة إنهاء عقود عملهم الاتفاقية قائلين إنهم لا يشعرون بتقدير المجتمع وغاضبون من انتقاد الرئيس ماكرون لهم فى خطابه العلنى بينما يعملون فى ظروف صعبة وبإمكانات قليلة (حتى فى فرنسا يشكون من قلة الإمكانات!) وقريبا من جرونوبل إلى مدينة فالانس فى شرق فرنسا أصدر عمدة المدينة قراراً غير مسبوق بقطع المساعدات المالية الاجتماعية عن أسر المراهقين الجانحين الذى يرتكبون جرائم وأعمال عنف. يثير القرار جدلا قانونيا واجتماعيا فى فرنسا إذ يرى كثيرون أنه يفتقر إلى المشروعية القانونية لأنه يسائل الأبوين عن جنوح وجرائم أبنائهم بقدر افتقاره أيضاً إلى العدالة الاجتماعية. يدافع عمدة المدينة عن قراره بأن قطع هذه المساعدات الاجتماعية هو ضرورة لمواجهة تنامى ظاهرة عنف وجنوح المراهقين وسيكون مسبوقاً بإنذار، لكن ذلك لم يوقف الجدل حول المشروعية القانونية والأخلاقية لقرار إدارى يحاول التصدى لظاهرة العنف خارج المسار القضائى بوسائل غير تقليدية.

يثير النقاش حول عنف المتظاهرين فى فرنسا تساؤلات أيديولوجية جديدة تستيقظ فيها مخاوف قديمة بشأن جماعات اليسار الراديكالى وما تختزنه الذاكرة الفرنسية من أحداث عنف وتخريب شهدتها شوارع فرنسا عام 1968. هنا تتجلى المفارقة فى أن خطاب حرية التظاهر فى العالم الثالث يصطدم أحياناً بواقع أن الجماهير تفتقر إلى ثقافة التظاهر المنضبط والمتحضّر التى تتسم بها المجتمعات الغربية، فإذا بشعوب هذه المجتمعات الغربية ينفلت غضبها وتمارس هى الأخرى العنف والتخريب! وصل الأمر إلى حد تلطيخ المعالم الأثرية فى فرنسا مثل قوس النصر وغيره برسومات مشوّهة لم تعرفها باريس من قبل. ولأن لكل مجتمع أولوياته وخصوصياته فإن درجات وأشكال العنف أصبحت تتلوّن بهذه الخصوصيات، لكنها فى المجتمعات الغربية وفرنسا تحديداً تكشف عن حالة من الملل والضجر بالحياة السياسية والحزبية والأيديولوجيات التى لم تعد تثير حماسة الناس أو شغفهم. نسى الأوروبيون شقاء وتقشف سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية وأصبحوا أكثر قلقاً على حرياتهم ورفاهيتهم وأقل تقبلاً للقيود بقدر ما ازدادوا ضجراً بالسياسة والسياسيين. هنا يُطل سؤال محيّر هل بلغت الديمقراطية الغربية نهاية الطريق أم هى عند مفترق جديد؟

عموماً ما زال فى جعبة الساسة الفرنسيين ما يُدهش ويُحيّر فها هى عمدة مدينة مارسيليا ميشيل روبيرولا الطبيبة التى كانت أول سيدة تحظى بهذا المنصب فى تاريخ المدينة الفرنسية العريقة تفاجئ الناس بإعلان تقديم استقالتها فجأة بعد ستة أشهر فقط من انتخابها على لائحة تحالف اليسار لأسباب صحية عقب إجرائها لعملية جراحية بالرغم من كونها تبدو فى حالة صحية عامة جيدة. تقول عمدة المدينة المستقيلة للناس فى مؤتمرها الصحفى لإعلان استقالتها إننى لم أرشح نفسى وينتخبنى الناس لأكون قابعة خلف مكتب أو مستمتعة بسلطات منصب أو حاملة لقب لكنى تقدمت للعمل السياسى لأننى بطبيعتى امرأة مناضلة وصاحبة مشروع، وبما أن ظروفى الصحية لا تمكننى الآن من ذلك فإن واجبى أن أستقيل لأترك مكانى لمن كانوا معى على اللائحة فقد كنت دائما وما زلت أؤمن بالعمل الجماعي. لا يحتاج هذا المشهد إلى تعليق، وربما يصعب تعميمه على كل الساسة فى فرنسا أو غيرها لكنه يظل مثيراً للتأمل باعثاً على الاحترام.

أتأهب لمغادرة فرنسا وكأنها تعيد اكتشاف ذاتها وتختبر القيم الثلاث التى طالما تغنت بها وهى الحرية والمساواة والإخاء، فهل تصمد هذه القيم أم تتراجع بفعل الأزمات الاجتماعية والسياسية والخوف من الآخر والمجهول؟ لا شىء مؤكد حتى الآن. المؤكد الوحيد أن باريس المدينة المتلألئة المبهجة الملهمة تبدو واجمةً وكأنها تشى بحزن وسر غامضين.


لمزيد من مقالات د. سليمان عبد المنعم

رابط دائم: