رحل عن عالمنا كاتبان. فكرت بعد الرحيل المتقارب هل كانا يعرفان بعضهما؟ هل التقيا؟ هل قرأ أي منهما للآخر؟ هل أثرت كتابات أحد فى زميله؟ عموما ليس أمامى وأنا أكتب سوى الرحيل المتزامن لهما معا. ولا يبقى لنا سوى الإحساس بخسارة الفقدان والتوقف أمام المآثر وإحياء الإنجازات. لأن الأجيال الطالعة تبقى فى أمس الحاجة لرموز قدمت أفضل ما عندها وأثبتت أن الإنسان قادر على أن يترك توقيعه على صفحات الزمان. ليس من أجل معاصريه، ولكنه كشكل من أشكال الرهان على الأجيال القادمة.
قديما كانوا يقولون إن من يكتب لم يمت. وأن الكتابة بالنسبة للإنسان عمر ثان. وإن من دونوا لنا كتاب الموتى قبل فجر التاريخ ما كان يخطر بخيالهم لحظتها أنهم سيمضون من الدنيا. لكن نصهم الخالد سيبقى أبد الآبدين. سيظل ما دامت البشرية تعرف الورق المطبوع. وما دامت الكلمات التى دونوها ستجد من يقرؤها ولو فى أزمنة لا نستطيع أن نتخيل شكلها ولا إيقاعها ولا حتى القراءة فيها.
الأمر المؤكد أن القراءة الورقية تنقرض. قد تصبح ذكرى من الذكريات الذى قد يتذكرها الآتون بعدنا. ولكنى أعود وأقول إن من كتب أيا كان ما قاله قد وُجد لنفسه عمرٌ ثانٍ بعد عمره الذى عاشه على الأرض.
نبيل فاروق روائى الخيال العلمى الفذ، هو نبيل فاروق رمضان بيومى. المولود فى 9 فبراير 1956، فى طنطا. عاصمة الدلتا. درس الطب ومن قلب طنطا فى الوجه البحرى ذهب إلى قنا فى دورة تدريبية. واستمر طبيبا إلى أن اشتهرت سلسلتاه: رجل المستحيل، وملف المستقبل. وهكذا اعتزل مهنة الطب ليتفرغ للكتابة وليؤسس لكتابة الخيال العلمى. وفى الوقت نفسه ترك الحياة فى طنطا ليعيش فى منشية البكرى قلب القاهرة.
لم يكن نبيل فاروق روائيا للخيال العلمى على طريقة غيره من الروائيين. فقد مارس رياضة تنس الطاولة وفضَّل أفلام الخيال العلمى الراقية. وبالذات تلك التى تحمل نظرة فلسفية أو اجتماعية صادقة. ومثل كل أدباء الخيال العلمى بدأ بالقراءة منذ طفولته المبكرة. سواء فى مكتبات عامة أو بتشجيع من والده وأصبح جزءا من جماعة التصوير والتمثيل المسرحى فى المدرسة الثانوية. وعندما ظهرت عليه بوادر الكتابة حتى في أثناء الدراسة حصل على جائزة من قصر ثقافة طنطا عن قصة النبوءة. كان ذلك عام 1979. والتى أصبحت فيما بعد القصة الأولى فى إحدي سلاسله المهمة.
بداية تحوله الجذرى كانت عام 1984، عندما شارك بمسابقة ثقافية وأدبية وفاز بجائزتها الأولى عن قصته: أشعة الموت. والتى نشرت كأول عدد من سلسلته عن المستقبل. من الصعب علىَّ الآن أن أحكم هل كان رائدا ومؤسسا لمثل هذا النوع من الكتابة؟ أم أن هناك من سبقه؟ سواء فى ميدان التأليف المصرى والعربى أو العالمى. من حيث العالمى للخيال العلمى، رموزه ومبدعوه وكتابه على مستوى العالم. عرفناهم وقرأنا لهم ولهثنا وراء خيالاتهم وأحلامهم وقارناها بالواقع الذى نعيش فيه. وأصبحوا نماذج مضيئة للكتابة الروائية التى تنطلق من الواقع جريا وراء المستقبل.
فى حين أن فن القص والحكى عندما عرفناه كان مرتبطا بأن يحكى عن الماضى. عما جرى وعما كان. ولذلك كان فعل الماضى التام، يشكل مداخل وأولويات الجمل التى نحكى بها حكاياتنا. إلى أن جاء نبيل فاروق ونقل الماضى التام للمضارع، ومنه انطلق إلى فعل المستقبل الذى يحول أحلام الناس إلى رؤى وتصورات وحكايات يقبلون عليها ويتابعونها ويلهثون وراء أحرفها بحثا عن المستقبل.
فى أكتوبر 1998، فاز بالجائزة الأولى فى مهرجان ذكرى حرب أكتوبر عن قصته: جاسوس سيناء. أصغر جاسوس فى العالم. وفى فترة لاحقة قام قسم دراسات الشرق الأوسط فى جامعة فيرجينيا الأمريكية بإنشاء موقع خاص للدكتور نبيل فاروق، وهو ما لم تحاول مؤسسة مصرية أو عربية أن تفعله فى حياته. فهل يمكن أن يتم بعد رحيله؟ حتى نقدم للأجيال الطالعة اسما مبدعا كبيرا يعتبر أحد مؤسسى أدب الخيال العلمى. لن أكتب عن غزارة إنتاجه. فهو يشكل حالة فريدة فى الكتابة والإبداع. ورغم أنه كان كاتبا يعتمد على مجهوده الفردى فى كل ما قام به. ولم يكن جزءا من مؤسسة أو لم يكن لديه فريق من المعاونين أو المساعدين. سواء العلماء أو أهل صنعة الكتابة. إلا أنه قدم سلاسل من الكتابات العلمية وصلت الأعداد الصادرة من بعضها إلى 160 عددا. كما أنه حاول أن يكتب سلاسل روايات عالمية للجيب وسلاسل عن حرب الجواسيس، وكمٍا غير عادى من السلاسل المخصصة للناشئة. أيضا فقد حاول أن يكتب أعمالا أدبية لا تستند إلى هذا الشكل من الكتابة المشوقة مثل كتابه: 7 وجوه للحب. وروايته: ظل الأرض.
نبيل فاروق جاء للدنيا ليقرأ ويتأمل ثم يكتب. توفى الأربعاء 9 ديسمبر 2020، بعد أزمة قلبية مفاجئة، ورحل عن عالمنا تاركا جهده ومشروعه. وإن كنت لم أعرف نبيل فاروق، فقد عرفت بهاء عبد المجيد. الروائى والباحث والدارس وأستاذ الأدب الإنجليزى. رحل عن عالمنا وأعلن رسميا أنه أصيب بكوفيد ـ 19، ودخل مستشفى عين شمس التخصصى باعتباره كان أستاذا بالجامعة. وفوجئنا جميعا بالخبر المحزن وغير العادى.
كان البحث الذى حصل على درجة الدكتوراه عنه سنة 2000 فى الأدب الإنجليزى. وكان عنوانه: تطور التيمات الأدبية فى أعمال هينى الشعرية من قسم اللغة الإنجليزية، كلية التربية جامعة عين شمس. كما أنه عمل أستاذا زائرا بجامعة أوكسفورد فترة من الوقت. وكان قد حصل على الماجستير فى الأدب الإنجليزى بعنوان: موضوع العنف فى شعر تيدهيوز عن الحيوان.
على أن الإنصاف يفرض علينا أن نتوقف طويلا أمام أعماله الإبداعية الأدبية. وهى أعمال كثيرة رغم انشغالاته بالترجمة. من هذه الأعمال: البيانو الأسود، جبل الزينة، ورق الجنة، وخمارة المعبد، والنوم مع الغرباء، وسد تريزا، وطقوس الصعود. وكان آخر نص روائى ينشر له فى حياته: القطيفة الحمراء الذى صدر فى 2019. أى قبل رحيله عن الدنيا بعام واحد.
هل نقرؤهما الآن؟!.
لمزيد من مقالات يوسف القعيد رابط دائم: