الأربعاء 23 ديسمبر يوم النصر العظيم للمقاومة الباسلة لأبناء بورسعيد 1956، لقد واصلت الكتابة لثلاثة أسابيع ماضية وفى ذكرى الحدث التاريخى الكبير كل عام لنهدى المدينة وأبناءها ونهيئ لهم ما يستحقون من تكريم، وليدرك كل مسئول فى المدينة أنهم أصحابها الحقيقيون ولا يسمح لأى طامعين فى استغلال إمكاناتها على حساب أبنائها وأن تدار بسياسات تحمي تاريخها ونضالها وعظمة ما قدم وضحى به أبناؤها لحماية مصر وإفشال المخططات الاستعمارية لعودة الاحتلال الانجليزى والاحتلال الفرنسى لقناة السويس واختطاف العدو الصهيونى لسيناء.
المدهش أن مقاومة 1956 فهمت وأدركت خطورة المؤامرة وأبعادها السياسية، ونبهت وحذرت منها صحافة المقاومة التى كانت تطبع فى المطابع الوطنية لمخلوف والألفي وتثبت ما توالى حدوثه وتعيشه الآن المنطقة العربية من أن الاستعمار وجرائمه لن يتغير موقفه منا واستهدافنا مهما تبدل الزمان والمسميات والأقنعة.. وفى صفحة من جريدة الانتصار 1956تكتب المقاومة: إن معركتنا لم تنته لأن القوات المعتدية لم تنسحب بعد من المدينة ولأن معركة بورسعيد أكبر كثيرا من مجرد عملية عسكرية تنتهى بانسحاب القوات المعتدية، إن معركة، بورسعيد معركة مصر والعالم العربى ومعركة سياسية فى المقام الأول وليست العمليات العسكرية إلا جزءا من المعركة السياسية والوطنية المستمرة. إن غرض الاستعمار الرئيسى تحطيم كفاح مصر والشرق العربى وإسقاط عبدالناصر، وليواصل الاستعمار نهب ثرواتنا وفى مقدمتها البترول ودخل قناة السويس وألا تضيع ثرواتنا منهم، ويخشى الاستعمار أن يطالب العرب كما طالبت مصر بأن تكون بلادهم وأموالهم وثرواتهم وبترولهم لهم، ويريد أن يثبت قوته بالعدوان علينا وقدرته على البطش بمن يحاولون أن يتحرروا وحماية مصالحهم، ولكن الاستعمار فشل ولم تقهر بورسعيد وقاوم أبناؤها بجرأة وشجاعة الآلاف من جيوش الاستعمار وأجبروها على الانسحاب.
> من عجائب بعض دول الاستعمار القديم أن فيهم من يحدثنا عن احترام الحريات فى بلادهم ويبرر بها الاعتداء على قيمنا ومبادئنا وعقائدنا، ومنهم من يؤوي ويمول الجماعات الإرهابية، وللأسف أننا لا نحاسبهم عن تاريخهم الاستعمارى الأسود ونطالب بما نهب من ثرواتنا وباعتذارهم لتعتز الأجيال الناشئة بتاريخها والذى كان يريد بعض من يجهلون تاريخ بلادهم أو تسمح لهم ضمائرهم أن يبيعوا هذا التاريخ بحفنة أموال لإعادة وضع واحد من اكبر رموز ومجرمى الاستعمار على مدخل قناتنا، وأقدم لكل من كانت توسوس له نفسه ما كتبه أبطال المقاومة فى منشور من المنشورات النارية التى ملأوا بها المدينة باللغتين الانجليزية والفرنسية: احذروا من محاولة العودة إلى أرضنا وبلادنا مرة ثانية.. أننا جاهزون لإرسالكم إلى الموت مرة أخرى.
> ما أكثر ما امتلأ به تاريخ المقاومة من وقائع كاشفة عن تدنى وندالة التاريخ الاستعماري والذى مازال يحتاج إلى مزيد من الاستقصاء والبحث عما لدى كل من عاشوا هذه الأيام المجيدة فى بورسعيد من عائلات معروفة وأبسط البشر والصيادين وأصحاب مراكب وقوارب الصيد ومسئولين عن وقائع المقاومة، وكيف امتلأت القوات الغازية بالرعب حتى طلبت حماية قوات البوليس الدولى التى دخلت بورسعيد لتشرف على انسحابهم الذى وافقوا عليه بلا أى شروط إلا ضمان ألا تعتدى عليهم قوات المقاومة فى أثناء انسحاب آخر فلول ضباط وجنود قوات البحرية الانجليزية على البارجة التى كانت تنتظرهم فى ميناء بورسعيد فى الخامسة عصر الأحد 23 ديسمبر، وكيف ان الكذب والخداع كان وراء اكبر اعتداء انزلوه بتشكيلات المقاومة الشعبية بعد أن أبادت ما أنزلوه من جنود مظلات وجعلت دخولهم من على شاطئ بورسعيد مستحيلا فرفعت الدبابات الانجليزية والفرنسية على أبراجها العلمين المصرى والروسى بعد الإنذار الروسى الشهير للقوات المعتدية .. فالتف أبناء بورسعيد يرحبون بها ففتحت عليهم دبابات العدو نيرانها وسوت الأرض بمن سقط من شهداء وتقدمت لاحتلال الشوارع والميادين الرئيسية واتجهت الدبابات الفرنسية إلى كوبرى الرسوة ولم يتوقعوا المفاجأة التى أعدتها لهم الصفوف الثانية من تشكيلات المقاومة والجنود المصريين الذين كانوا يملأون الأشجار الضخمة التى كانت تمتلئ بها المدينة، ودارت معارك قتالية من شارع إلى شارع واقتحمت القوات المعتدية الجامع العباسى الذى احتمى به من تهدمت منازلهم من شيوخ وأطفال ونساء بحثا عن الفدائيين، وتذكر وثائق المقاومة أن القصف الجوى وتدمير المنازل فى هذه المعركة جعل أكثر من خمسة آلاف أسرة بلا مأوى، ويذكر احد الكتب الأجنبية التى كتبت عن العدوان وكان بعنوان مصيدة السويس للكاتب الفرنسى هنرى آزو «أن عدوان القوات البرية والبحرية والجوية حوله المصريون من أبناء بورسعيد الى مصيدة لهم أنهت تاريخ اكبر امبراطوريتين للاستعمار القديم، وأطاحت برؤساء حكوماتهم وأدانت تاريخ بلادهم» ويكشف الكتاب أن أول فرنسى هبط بالمظلة على أرض بورسعيد لم يكن ضابطا يحمل السلاح، بل كان صحفيا جاء ليغطى الهزيمة التى توقعوا أن ينزلوها بمصر بعد ساعات من غزوها وكشفت أوراقهم ان المخطط كان يتجاوز بورسعيد إلى احتلال مصر كلها.
> من أعجب ما جاء فى كتاب هذا الصحفى الفرنسى أن جنود الغزو عطروا أنفسهم وأسلحتهم بأفخر العطور الفرنسية لأن عبدالناصر سخر منهم فى أحد خطبه ووصفهم بالجنود المعطرين!! ويحكى المؤلف أن قائد المظلات الفرنسى من مبنى غرب محطة المياه فى بورسعيد اتصل بأحد أصدقائه فى القاهرة طالبا أن يعد له أنخاب انتصارهم! فقد كان مقررا احتلال القاهرة فى 14 نوفمبر 1956 كما رسمت خطة الهجوم ولم يتوقع أحد جبروت وعنف مقاومة أبناء بورسعيد ومن معهم من الشرطة، ويؤكد المؤلف ان جرأة المقاومة والروح القتالية لكل مواطن من أبناء بورسعيد من جميع الأعمار جعلهم يتعجلون الجلاء عن هذه المدينة القوية الصامدة.
> أرجو ألا يكون يوم الأربعاء المقبل الموافق 23 ديسمبر كيوم معتاد من أيامنا وأن يحييه إعلامنا على جميع قنواتنا الكبرى والإقليمية وإذاعاتنا بما يستحق ويليق به، فقد كان تتويجا لجهاد ومعاناة وآلام وأرواح ودماء مئات الآلاف من الشهداء والعمال والفلاحين وأبناء منطقة القناة، وفى مقدمتهم أبناء بورسعيد فى حفر قناة السويس وفى مقاومة الاحتلال منذ عام 1882، ثم فى مواجهة وهزيمة جيوش الغزو الثلاثى فى عام 1956.
> وكل عام وكل من ضحى وبذل الدم والحياة وعمل بإخلاص من أجل خير ونصرة وعزة هذا الوطن ينالون ما يستحقون من تكريم واحترام ووفاء فى وطن يحترم ويحتفى باستحقاقات العدالة والكرامة والمواطنة وعدم التمييز، وإذا كانت هذه حقوق دستورية للمواطن فى كل وطن يحترم مواطنيه فما بال استحقاقات من ظلوا لمئات السنين خط الدفاع الأول عن بلادهم.
لمزيد من مقالات سكينة فؤاد رابط دائم: