على مدى ما يزيد على عام تقريبا ابتدعت إيران ما أطلق عليه بـ «إستراتيجية الصبر الإستراتيجي»، وتعنى العمل بشتى السبل على امتصاص كل الاستفزازات التى يقوم بها كيان الاحتلال الإسرائيلى والإدارة الأمريكية التى يترأسها دونالد ترامب سواء كانت الضربات الإسرائيلية المتلاحقة وشديدة الحرج ضد كل ما يعتبر وجودا عسكريا إيرانيا أو محسوبا على إيران فى سوريا، أو تبعات سياسة الرئيس ترامب التى فرضت على إيران «أقصى عقوبات» لإرغامها على الجلوس على مائدة تفاوض جديدة للتوصل إلى «اتفاق نووى بديل» للاتفاق الذى جرى التوقيع عليه عام 2015 وانسحب منه ترامب عام 2018، اتفاق ترضى عنه إسرائيل وحلفاؤها الإقليميون يأخذ فى اعتباره وضع ضوابط جادة تضمن عدم تمكين إيران من امتلاك سلاح نووى بشكل مطلق ونهائي، واحتواء قدرات إيران من الصواريخ الباليستية، وإنهاء مشروعها الإقليمى الذى يعتبرونه تهديدا لمصالح حلفاء واشنطن الإقليميين. تحملت إيران كل هذا الاستفزاز، وعندما وصل الأمر إلى تعرض منشآتها النووية إلى عمليات تفجير طالت أيضا محطات للكهرباء ومنشآت حيوية، عندها طرح السؤال: هل من نهاية لإستراتيجية الصبر الإستراتيجى هذه؟ السؤال طرح عقب اغتيال الأمريكيين، بقرار من الرئيس دونالد ترامب، للجنرال قاسم سليمانى قائد «فيلق القدس» فى الحرس الثورى الإيرانى المعروف بـ«قائد المشروع الإقليمى الإيراني»، والآن يطرح السؤال بكثافة عقب اغتيال القائد الفعلى للمشروع النووى الإيرانى أستاذ الفيزياء النووية الدكتور محسن فخرى زاده رئيس منظمة الأبحاث والإبداع بوزارة الدفاع الإيرانية، لذلك لم يعد ممكنا للإستراتيجية الإيرانية التهرب من حسم الإجابة عن هذا السؤال، على الأقل أمام الشعب الإيرانى الذى أضحى على حافة افتقاد الثقة فى من يملكون قرار بلادهم، إن لم يكن أمام من يصنفون بـ «الأعداء» الذين باتوا مهيئين لسماع رسائل خاطئة من استمرار سياسة الانضباط والالتزام بـ «صبر إستراتيجي» تآكلت شرعيته ومصداقيته أمام مسلسل الاغتيالات، قد يشجع هؤلاء «الأعداء» ليس فقط على مواصلة سياسة الاغتيالات لتطال زعامات بارزة إيرانية أو حليفة لإيران. فهل ستحمل الأيام القليلة المقبلة مفاجآت إيرانية بهذا الخصوص؟ السؤال تزداد أهميته فى ظل تعمد الحكومة الإسرائيلية تسريب معلومات تؤكد ليس فقط مسئولية إسرائيل عن اغتيال العالم النووى الإيراني، بل تهدف بالأساس إلى «تسويق» سمعة جهاز الاستخبارات الخارجية الإسرائيلية «الموساد» باعتبار أنه «جهاز قادر على فعل المستحيل وفى مقدور يده الطويلة أن تصل إلى من تريد وقتما تريد»، كما تزداد أهميته أيضا فى ظل ما أعلنه الرئيس الأمريكى دونالد ترامب عقب اغتيال العالم الإيرانى بأن «من هنا وحتى 20 من يناير 2021 (موعد انتهاء رئاسته) ستحدث أشياء كثيرة فى الداخل والخارج». حسابات مهمة من المؤكد أن إيران تأخذها فى اعتبارها وهى تفاضل بين استمرار الالتزام بإستراتيجية «الصبر الإستراتيجي» أو تدفع بها إلى «مذبلة التاريخ» وتظهر الوجه الآخر لإيران «كقوة إقليمية طامحة للزعامة الإقليمية وليس عنوانا لمشروع إقليمى يتهاوي»، لكن هناك ما هو أهم بهذا الخصوص، ونستطيع أن نرصد ثلاثة اعتبارات أضحت على مائدة البحث الإيرانية؛ الإعتبار الأول يتعلق بالأهداف المرجوة من عملية اغتيال العالم محسن فخرى زاده. وبهذا الخصوص أعفى الجنرال الإسرائيلى (احتياط) الرئيس السابق لجهاز الاستخبارات العسكرية والرئيس الحالى لمعهد دراسات الأمن القومى إيران من مغبة تبعثر الاجتهادات بهذا الخصوص فى تحليل نشره على موقع القناة (12) بالتليفزيون الإسرائيلى أكد فيه أن منفذى عملية اغتيال العالم النووى الإيرانى حاولوا تحقيق ثلاثة أهداف هى أولا: الإضرار بالبرنامج النووى الإيرانى وتقويضه، وثانيا خلق تصعيد ينتهى بهجوم (إسرائيلى أو أمريكى إسرائيلي) على المواقع النووية، وثالثا: منع إدارة بايدن من العودة إلى البرنامج النووي. وعلّق يادلين على هذه الأهداف بأن «الهدف الأول قد تحقق»، وكان يادلين قد أكد فى الأسبوع الماضى أن اغتيال العالم الإيرانى «سيجعل من الصعب على جو بايدن العودة إلى الاتفاق النووي»، وبذلك يبقى الهدف الثالث وهو أن تقع إيران فى خطأ الحسابات وتتورط فى انتقام يجعل الخيارات الأخرى المخططة ضدها «خيارات مفتوحة» سواء بشن هجوم على منشآتها النووية أو تصعيد سياسة الاغتيالات وهذا بدوره يزيد من تعقيد التقديرات والخيارات الإيرانية. الاعتبار الثاني: تزايد الدلالات المادية عن اقتراب حصول هجوم على منشآت إيران النووية. منها وصول طائرات B52 إلى قاعدة الظفرة الإماراتية وتفريغ حمولتها من قذائف قيل إن بعضها رءوس نووية والبعض الآخر خارق للتحصينات، وتجهيز قاعدة «الحرير» الأمريكية فى أربيل شمال العراق بأجهزة رصد وتنصُّت متطورة، ومنها إعطاء أذربيجان الإذن لإسرائيل منذ ما يقرب من عشرة أيام باستعمال مطاراتها وأجوائها، دلالات تكتسب مصداقية سواء من منظور تأكيد معلومة الهجوم المتوقع أو من منظور «ردع» الإيرانيين عن الانتقام لاغتيال عالمهم النووى وإرباك حساباتهم. أما الاعتبار الثالث، فيتعلق بحيثيات ودوافع الحرص الأمريكى الشديد فى هذه الظروف وفى هذه الأيام التى تسبق رحيل إدارة دونالد ترامب على فرض «مصالحة خليجية» بين قطر والسعودية بشكل خاص توطئة لتوسيعها. إيران تعطى هذا الاعتبار أولوية قصوى وتتابع عن كثب وبدقة تسريبات إسرائيلية وغربية مفادها أن هذه المصالحة هدفها الأساسى خلق موقف خليجى موحد داعم للهجوم المنتظر ضد إيران. مؤشرات واعتبارات مهمة تؤكد وجود نيات للتصعيد من الطرف الآخر تزيد من تعقيدات الخيارات الإيرانية للرد على اغتيال العالم النووي، لكن ما هو أخطر من هذه التعقيدات هو المردود الشعبى الداخلى الإيرانى لهذا الارتباك، والانقسام بين الحكومة الإيرانية ومن يدعمها من المعتدلين التى مازالت تراهن على الصبر الإستراتيجى لكسب إدارة جو بايدن وبين المتشددين وعلى رأسهم المرشد الأعلى والحرس الثورى ومجلس الشورى (البرلمان) ومجلس الأمن القومى فى وقت باتت تستعد فيه طهران لخوض انتخابات رئاسية مهمة فى يوليو المقبل، قد يكون هذا الخلاف حول القرار الإيرانى للرد على اغتيال العالم النووى أحد أبرز وربما أخطر أوراق المنافسات الانتخابية.
لمزيد من مقالات د. محمد السعيد إدريس رابط دائم: