أذكر أننى فى مطلع التسعينيات ذهبت مع أستاذى وسائقنا «فرج الجبالي» رحمة الله عليه للعمل بوادى الزلقة القريب من نويبع بجنوب سيناء، مروراً بعلوة العجرمية القريبة من سانت كاترين، وقد تركنا بعض زملائنا للعمل فى وادى روفيد بالقرب من كاترين، واتفقنا على العودة إليهم فى آخر النهار، وبعد أن هبطنا من علوة العجرمية باتجاه وادى الزلقة أدركنا صعوبة عودتنا لزملائنا فى الموعد المحدد، وأكملنا العمل بجد واجتهاد بدون التفكير فيما قد يحدث لهم أو لمن ينتظرون عودتنا جميعاً فى المركز الرئيسي، وبمجرد أن رأيناه مبتسماً وهو فى قاع البئر يده بيد العمال، وسمعناه عندما خرج إلينا، لم نعد نتذكر أحداً أو نهتم بشيء فكأنما حديثه العذب ومعارفه المتوارثة الواسعة وابتسامته الدائمة ورغبته الشديدة فى التحدث إلينا وإكرامنا أنستنا كل شيء، «حتى من تركناهم خلفنا أو من ينتظرون عودتنا»، خاصة وأن هناك بروتوكولا يعمل به الجميع بالصحراء، هو «بروتوكول الصحراء»، ففى حالة عدم عودة جميع أفراد الفريق أو بعضهم فى موعدهم المحدد يتم البحث عنهم مباشرة، خاصة وأن التأخر فى التحرك قد يفقدهم أرواحاً لا يمكن إسعافها، هذا مع تأكيد زوجة سائقنا «الجبالي»، التى أكدت أن «زوجها» لا يمكن أن يضل الطريق، فهو ذو خبرة طويلة فى العمل بالصحراء، وأن هناك شيئا ما قد حدث للبعثة.
وعمل الزملاء فى المركز الرئيسى اللازم وأبلغوا الجهات المسئولة والبعثات المجاورة للبحث عن الجميع، وقام فريقان باقتفاء أثارنا بمساعدة أحد أهالى المكان «أبناء قبيلة الجبالية» ، ورغم عودة الزملاء الآخروين سيراً على الأقدام، فقد وصلوا إلى المركز فى حالة صحية يرثى لها، وأصبح كل همهم أن يطمئنوا على سلامتنا، ونحن كنا قد نسينا الجميع فى ضيافة ذلك الرجل المتواضع عذب الحديث، الذى لا يمكن لغريب أن يميزه من بين الآخرين بملابسه أو هندامه، ولكن بتصرفاته وكلماته التى توزن بالذهب، إنه الشيخ عنيز أبوسالم «رحمة الله عليه»، فقد استضافنا فى «عين أم أحمد»، وذبح شاة وقدمها طعاماً لنا تحت أشجار مزرعته، التى كان يهتم بها وبأشجارها كما يهتم بأحد أبنائه، وعندما علم الشيخ أننى أحد أبناء سيناء، قال وهو يكاد يختبر مدى معرفتى بلغة البدو وإلمامى بها: تقدر تقول معنى «الوثر جنب الثميلة»، فقلت: بحكم عملى وتخصصى فإننى أعرف «الثميلة»، وهى مكان تنزل فيه المياه وتتجمع على أعماق ضحلة فى الصحراء وعادة تكون نتيجة وجود سد أمام الماء يُمسكه، بينما وضح الشيخ أن «الوثر» هو ما يوضع على ظهر الإبل عند السفر بها.
وعلى أنغام الربابة وأبيات الشعر التى برع فيها مضيفنا، بدأنا حثيثاً ندرك قيمته وعلو همته، ومع نهاية عزف الربابة تذكرنا حالنا، ولكننا لم نجد بد من المبيت، وفى الصباح لم تكن هناك أى وسيلة تواصل للاطمئنان على الآخرين أو تطمينهم علينا، وأكملنا العمل فى وادى وتير المشهور بكثرة الثمائل «جمع ثميلة»، وعدنا بعد انتهاء عمل اليوم التالى من نويبع إلى كاترين مباشرة، ورغم عودة فرق البحث عنا سالمة، بعد ان تتبعت مسيرتنا ولقاء جميع من التقيناهم، فإننا شعرنا بالألم لما أصاب الجميع، بسبب شغفنا وحب المغامرة وانبهارنا بالثقافة المتوارثة لذلك الإنسان الفذ الذى التقيناه فى قلب الصحراء.
د. كمال عودة غُديف
أستاذ المياه بجامعة قناة السويس
رابط دائم: