بعد أن احتضنت جريدة الأهرام عدة مقالات لكاتب هذه السطور عن موضوع الديمقراطية، أشار عدد من الأصدقاء بمن فيهم بعض أهل الاختصاص إلى رفض النموذج الغربي للديمقراطية أو لعدم ملاءمتها لمجتمعنا. والحقيقة أن القضية تستحق أن نضعها في سياقها الأوسع حيث درس العديد من المتخصصين سؤالا محوريا في آخر عقد من الزمن وهو: هل الحكم الصالح ممكن دون ديمقراطية أو العكس؟
وهو ما يأخذنا إلى واحد من أهم صيغ تعريف الديمقراطية حين قال الرئيس الأمريكي الأسبق ابراهام لينكولن: الديمقراطية هي حكم (كل) الشعب، بواسطة (ممثلي كل) الشعب، من أجل (كل) الشعب. ومن هنا جاءت صيغة أن الديمقراطية هي الحكم بواسطة (ممثلي كل) الشعب بهدف الحكم الصالح أي من أجل (كل) الشعب. ويكون السؤال: هل لا بد أن تكون الحكومة بواسطة الشعب (أي ديمقراطية) كي تكون من أجل الشعب (أي الحكم الصالح)؟ أم أن الممارسات المعاصرة للديمقراطية جعلتها ليست من أجل كل الشعب.
وأبدأ بمفاجأة جاءت إلينا من استطلاع مركز بيو للأبحاث الصادر عام 2019 والذي جاء فيه أن هناك استياء متزايدا من الديمقراطية مقارنة باستطلاعات أخرى قام بها المركز في فترات سابقة حيث تبين أن غالبية المستجيبين في جميع أنحاء العالم أفادوا بعدم رضاهم عن الديمقراطية. حتى من بين 30 دولة ديمقراطية راسخة رصدها الاستطلاع، أفاد غالبية المستجيبين في 27 منها بعدم الرضا عن الديمقراطية. ركزت الأسباب المقدمة من هؤلاء المبحوثين إلى حد كبير على مشاكل الأداء الديمقراطي, وتشمل هذه الأسباب أولا النفور من فساد القادة المنتخبين ديمقراطيا في كثير من الدول، وثانيا الاستياء من السياسات الاقتصادية التي تستمر في توسيع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، والغضب من القادة السياسيين لعدم الاستجابة للمشاكل العالمية طويلة المدى مثل تغير المناخ أو اللاجئين لمصلحة التركيز على القضايا قصيرة المدى مثل خلق الوظائف حتى لو على حساب تدمير البيئة وجعل الحياة أسوأ للأجيال القادمة. يتعزز عدم الرضا (وعدم الثقة) بالديمقراطية في معظم أنحاء دول الجنوب لسببين إضافيين: الأول الإرث السلبي للاستعمار والارتباط بين الدول الاستعمارية والديمقراطية الغربية التي هي أداة غربية تفرضها هذه الدول على مجتمعات الجنوب للتدخل في شئونها بهدف تحقيق مصالح الغرب. والثاني هو جاذبية بعض النماذج الاستبدادية عند كثير من أبناء دول الجنوب. بعبارة أخرى، أن عدم الرضا عن الديمقراطية يعززه أيضًا جاذبية البدائل الاستبدادية مثل نماذج الصين وسنغافورة وروسيا.
ووجد الاستطلاع أن النموذج الصيني يحظى بتقدير خاص يجعل الكثيرين يرون أنه أولى بالمحاكاة والتقليد. وهناك عدة أسباب تجعل النموذج الصيني جذابًا عند مجتمعات الجنوب سواء عند الحاكمين أو المحكومين. بالنسبة للنخب الحاكمة في البلدان الاستبدادية ، تكمن الجاذبية في الاستقرار السياسي والنمو الاقتصادي السريع. وبالنسبة للمواطنين وكثير من قادة الرأي، تكمن جاذبية النموذج الصيني في حقيقة أنه ليس غربيًا (وبالتالي ليس إمبرياليًا) ويمثل طريقًا ثالثًا بديلًا للتقدم، فضلا عن سياسة عدم التدخل الصينية في الشئون السياسية الداخلية، والتي تتناقض مع محاولات الغرب لتعزيز نشر الديمقراطية الغربية بالتدخل العسكري وما أفضى إليه من نتائج سلبية مثلما هو الحال في العراق. ومع تزايد جاذبية النماذج السياسية غير الديمقراطية سادت أسئلة في أدبيات العلوم السياسية عن مدى إمكانية توافر سيادة القانون وفعالية الحكومة وتطبيق نماذج غير ديمقراطية للحكم الصالح أو الرشيد (good governance). وهذه النوعية من الأدبيات تشكك في ما كان سائدا لفترات طويلة من أن الديمقراطية والحكم الصالح مرتبطان بطبيعتهما وما ترتب على ذلك من قاعدة أشبه بقانون أن أي تحرك في اتجاه نماذج أقل ديمقراطية من شأنه أن يؤدي إلى حكم أقل كفاءة لأن الحكومات غير الديمقراطية أقل اهتماما بقضايا الصحة والتعليم والرفاه الاجتماعي للمواطنين مقارنة بالدول الديمقراطية. وأصبح هناك اتجاه في الأدبيات المعاصرة إلى أسئلة من قبيل: هل يمكن تحقيق حكم صالح أو صالح بقدر كاف دون ديمقراطية؟ هل تؤدي الأنظمة الديمقراطية في العالم النامي أداءً أفضل من أنواع الأنظمة الأخرى من حيث مؤشرات الحكم؟ إذا لم يكن كذلك ، فهل الديمقراطية ضرورية لتعزيز الحكم الرشيد؟. بل إن بعض الكتابات ترى أن الأداء الاقتصادي المتميز للصين (غير الديمقراطية) مقارنة بجارتها الهند (أكبر ديمقراطيات العالم من حيث السكان) يجعل من الحتمي التمييز بين الديمقراطية والحكم الصالح. بل إن هذا التصور عززه نجاح حكومة الصين في احتواء آثار الكورونا بمعدل أعلى كثيرا من الهند.
يقال إن النموذج الصيني يوفر درجة من الشرعية الإجرائية غير الديمقراطية بما يفضي إلى أداء اقتصادي واجتماعي نادر الحدوث حتى في الدول الديمقراطية. كيف هذا؟
أولاً: تحافظ النخبة السياسية الصينية على توجه سياسي وسطي براجماتي (أي غير أيديولوجي) يميز الصين عن الأنظمة الاستبدادية سواء اليمينية أواليسارية القمعية الأخرى. ثانيًا: تستخدم الدولة بنشاط نهجًا استشاريًا للحكم يقوم على استطلاع الآراء والاستفادة من أصحاب الخبرات قد يسميه البعض نمطا من الديمقراطية التشاورية غير القائم على التنافس بين النخب على نحو ما تشهده الديمقراطيات الغربية. ثالثًا، يتم التعامل مع تنفيذ السياسات وتفعيل مؤسسات الرقابة والتقاضي بجدية وكفاءة غير موجودة بنفس القدر في معظم نماذج الديمقراطية الغربية. إذن الحكم في الصين لا ينطبق عليه الجزء الأول من تعريف لينكولن، فهو ليس بواسطة كل الشعب ولكنه لا شك لكل الشعب. ليس الهدف من هذا الكلام هو قتل النقاش بشأن حاجة مصر للديمقراطية، وإنما العكس هو الصحيح.
لمزيد من مقالات ◀ د. معتزبالله عبدالفتاح رابط دائم: