إن باب الأمل مفتوح بالتوكل على الله والتحلى بالصبر، فالحياة تعلمنا أنه مهما أسدل الليل ستاره على عيون دامعة، وشفاه قد تصرخ ألما، فلابد من انبلاج الفجر
ما أقسى المرارة التى أعانيها، وما أصعب الظروف التى عشتها على مر السنين، ووجدتنى وحدى فى مواجهتها، فأنا امرأة عمرى واحد وأربعون عاما، وقد رحل أبى عن الحياة عندما كان عمرى ست سنوات، وترتيبى الرابعة بين أشقائى الخمسة، وصرنا بلا سند ولا معين سوى أمى، وليس لدينا دخل سوى معاش أبى الذى لا يكفى متطلبات المعيشة، وبرغم صغر سنى وقتها، فإننى كنت أتألم من أى موقف يمر علينا أشعر فيه بضعفنا وقلة حيلتنا خاصة وأن والدتى لم يكن لها سند إلا الله، فلم يقف بجوارنا أحد لا عم ولا خال، بل إنهم أخذوا ميراثنا، فلم نحصل منه على شىء، وكبرت، وتحمّلت مسئولية الأسرة، وكأنى ولدت من أجلها!، ولم أجد ناصحا ولا معينا من البشر، وكانت المواقف معلمتى فى التغلب على الصعاب، ولم أقف مكتوفة اليدين فى مواجهة الأحوال المعيشية المتردية، فتاجرت فى الخضار، واتخذت مكانا لى فى سوق قريتنا، وصار لى زبائنى الذين عرفوا مكانى، ووثقوا فى جودة بضاعتى، أما فى العيد، فلم أعرفه كما عرفه الأطفال فى مثل سنى، ولم أخرج فيه للتنزه وركوب المراجيح، واللعب مع الصديقات، وإنما عرفته كبائعة حلوى أمام منزلنا الذى كان يشبه «الكوخ» بسقفه المقام من الحطب، ولك يا سيدى أن تتخيّل حالنا فيه عندما تنهمر الأمطار فى فصل الشتاء.
وقد زادتنى هذه الظروف إصرارا على مواصلة تعليمى، فتفوقت فى المدرسة، وكان ترتيبى دائما بين الأوائل، وعندما أتممت المرحلة الإعدادية أردت الالتحاق بالثانوية العامة، ونصحنى من حولنا بالاتجاه إلى التعليم الفنى، لأن أمى لن تتحمّل مزيدا من المصاريف، وهى فى حاجة إلى دخلى من التجارة البسيطة فى السوق، كما أن المدرسة الفنية قريبة منا ولا تحتاج إلى مواصلات، وبالفعل حصلت على دبلوم متوسط.
وجرت أحداث كثيرة، وانشغل أخوتى بأنفسهم، ولم يفكر أى واحد منهم فى المساهمة بنفقات الأسرة، ولم يقدروا صنيعى، أو يساعدونى فى هذه المهمة الثقيلة، ورأيت أن نترك القرية التى ذقنا فيها مرارة القهر على أيدى أعمامنا وأخوالنا، وأيدنى أخوتى، ولم تجد أمى ما يمنعنا من الانتقال إلى مكان آخر، وتركنا بلدتنا، واستقررنا بمدينة أخرى، وعملت فى إحدى الشركات، وادخرت مبلغا، وأكملت تعليمى الجامعى وحصلت على الماجستير، وحاليا أدرس الدكتوراه، وقد تنقلت كثيرا بين شركات القطاع الخاص، فأنا شخصية حساسة جدا، وبصورة مبالغ فيها، وعند حدوث أى موقف أشعر فيه بتقليل من قدرى أو إهانتى أترك المكان ضاربة عرض الحائط بأى عواقب تترتب عليه، فليس لى إلا كرامتى.
وطوال رحلتى فى الحياة كان أخوتى أحد أسباب شقائى، فليس لهم أى دور فى حياتى فى الوقت الذى تحمّلت فيه مسئوليتهم جميعا، وإلا غضبت والدتى علىّ، ولا أقبل ذلك أبدا مهما كلّفنى الأمر، وقد تزوجت أختى الكبرى، ثم أخى الأكبر، وهو لم يستمر فى أى عمل طويلا، ويدخل فى مشروعات كثيرة، ويخسر فيها، فأتولى تسديد ديونه حتى لا يلجأ الدائنون إلى القضاء، ويتعرض للسجن، وتكرر ذلك كثيرا، وليس هذا فقط، وإنما أيضا أدفع إيجار مسكنه، وتزوجت أختى الصغرى، واقترضنا مبلغا لزواجها، وفى العام نفسه تزوج أخى الثانى، وتراكمت ديون كثيرة على أخوتى، وحدثت مشكلات كثيرة، وخارت قواى، ولم أعد قادرة على تحمّل هذا العذاب الذى لا ينتهى، ولم أجد بدا من مغادرة المنزل، وذهبت إلى أختى الصغرى، وطلبت منها ألا تخبر أحدا بأننى عندها، ثم تراجعت عن طلبى منها خوفا على والدتى، فاتصلت بها، وطلبت منها أن نعيش بمفردنا بعيدا عن أخوتى ومشكلاتهم، فلقد أصبحت لكل منهم حياته الخاصة، فوافقتنى على ذلك، وانتقلنا إلى مكان بعيد عنهم، ولكن فى المدينة نفسها، واستأجرنا شقة وعشنا على «البلاط»، وعلينا من الديون ما يحتاج إلى سنوات لكى أتمكن من تسديدها، وساءت حالتى النفسية، وتركت عملى، وبعد فترة التحقت بعمل جديد، وتحسنت أحوالنا، وسددت الديون، وتنفست الصعداء، ولكن مثلى لا سبيل أمامها إلى الراحة، حيث دأبت والدتى على تحميلى هموم أخوتى، وزادت عليها مسئولية أبنائهم، ومطالبتى بالتدخل فى كل كبيرة وصغيرة تخصهم من باب أننى أحسن التصرف، وأنهم يمتثلون لرؤيتى لثقتهم الكبيرة فىّ، وتكرر على مسامعى هذا الكلام.
لقد استهلكت نفسيا وجسديا، وكم تمنيت أن يكون لى سند أعتمد عليه، وأكون مسئولة منه، فحتى الآن مازلت تائهة، ولا يشعر بى أحد، الكل يستغلنى، ولا أرى طريقا لكى أعيش لنفسى، وتكون لى خصوصياتى.. تصور ـ يا سيدى ـ لو اتصلت بى واحدة من صديقاتى ألاحظ علامات الضيق على أمى، ولو خرجت من البيت من باب الترويح عن نفسى بعض الوقت، أشعر بتأنيب ضميرى لأنى تركت والدتى بمفردها، وما يحزننى أنها تعاملنى وكأننى ليس لى أى حق فى الحياة، وكل ما يهمها أخوتى وأبناؤهم، فهى تتعب كثيرا إذا تأخروا فى زيارتها، ولا أنكر أننى أحبهم، ولكن أين أنا؟.. إن حياتى مفتوحة أمامهم، وليس بإمكانى أن أعيش كما أريد، وأصبحت أنام كثيرا، وليست لدىّ طاقة، وليست لى صلة مع الجيران.. لقد ماتت كل الأشياء بداخلى، وأصبحت ردودى على والدتى جافة، وينتابنى الضيق من أى حوار بيننا، وأقول لها: لا أريد أن أسمع شيئا، ولا أن أتكلم فى مشكلة أحد، وقد حدث متغير جديد، وهو أنها قررت ألا تعطينى جزءا من معاشها برغم أننى مسئولة عن جميع مصاريف ومتطلبات المعيشة، وأدير شئون بيتنا، ولم أقصر معها، ولا مع أخوتى أبدا حتى لو على حساب نفسي، وبفضل الله نعيش حياة أفضل بكثير مما كنا عليه، ولا ينقصنا شىء، وللأسف هددتنى والدتى كثيرا بأنها سوف تترك لى المنزل، وعند قسوتها أرى لها وجها آخر فهى لا تلين بسهولة، وكنت ألتمس لها فى كل مرة ألف عذر، ولكنى أصبحت لا أقوى على ذلك، فأين حقى فى الحياة؟، وكيف أحيا ما تبقى لى من عمر فى هدوء واستقرار؟
ولكاتبة هذه الرسالة أقول:
من أمضت حياتها بهذا الجهد والنجاح لا تفقد الأمل فى غد مشرق، ولا تلين عزيمتها فى مواجهة الشدائد مهما تكن قسوتها، فهى تدرك أن هناك ضوءا أخضر ينتظرها، وأن باب الأمل مفتوح بالتوكل على الله والتحلى بالصبر، فالحياة تعلمنا أنه مهما أسدل الليل ستاره على عيون دامعة، وشفاه قد تصرخ ألما، فلابد من انبلاج الفجر.. يقول الشاعر:
ما أضيق العيش
لولا فسحة الأمل
فلنفهم معنى الحياة التى لا تخلو من المطبات، ولا نزرع فى أنفسنا أفكارا سلبية ولا نحبط معنوياتنا، ولتكن ثقتنا بالله بلا حدود, ولنحسن الظن به، وندرك أن مع العسر يسرا, وأنه لا يأس مع الحياة.. وأنت قادرة على تجاوز المتاعب التى ألمّت بك، وعلى والدتك أن تشد أزرك، فيكفيك ما عانيتيه من متاعب على مر السنين، وقد آن لك أن تستريحى، وأن تكون لك حياتك الخاصة، ويكفيك أنك قدمت لأخوتك الكثير حتى بعد أن تزوجوا، وصارت لهم بيوت مستقلة، فالتفتى إلى نفسك، وتحكمى فى ردود أفعالك، وحافظى على طاقتك الإيجابية بشكل دائم، وأعيدى ترتيب أولوياتك، فالله لم يخلقنا ليعذبنا، وإنما خلقنا ليهبنا السعادة التى لا تكمن فى الجانب المادى فحسب، وإنما أيضا فى وجود سعادة داخلية، تحيط بنا، وتجعلنا قادرين على مواجهة أعباء الحياة، بكل ما فيها، من خير وسوء، ولا تقارنى نفسك بالآخرين، فلقد جعلك الله ملاذا لمن حولك، فصرت صاحبة القلب الكبير، والعقل المستنير لأمك وأخوتك، وما أعظمها نعمة يفتقدها الكثيرون.
لقد بعت الحلوى والخضار وأنت طفلة، ولم تبالى بالمتاعب التى اعترضت طريقك الدراسى، وحققت ما كنت تحلمين به من التعليم العالى، والدراسات العليا، فى غياب أعمامك وأخوالك الذين منعوا الميراث عنكم، وأرجو أن يعلموا أن أكلهم أموالكم بغير حق؛ سيكون عقابه عند الله شديدا، حيث يقول تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَارا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرا» (النساء 10).
لقد تعودت على تحمّل المسئولية، وأنت بطبعك قنوعة، ولا تنتظرين المساعدة، وتتصرفين بناء على ما يمليه عليك عقلك من حكمة، وقد تظهرين للآخرين ومنهم أمك وأخوتك كأنثى كاسرة، لا تهزها الرياح ولا العواصف، ولكن جوهرك أخف من الريشة، وقلبك يُغرق بحنانه الجميع، ولكن لا يضعفك الكلام المعسول، ولا تكترثين بالغزل المكرر الذى يقال بنفس الوتيرة للآخرين، فأنت حكيمة لا تشبهين سوى نفسك، ولا تقبلين بأنصاف الحلول.
وأرجو أن تنتبه أمك إلى خطئها فى تحميلك مسئولية الجميع حتى الآن، فمنذ البداية كان الواجب عليها أن تفطن إلى ذلك، فتوزع المسئوليات على الجميع خصوصا شقيقيك، لكى يدرك كل واحد أهمية العمل، ولا يكون عالة على أخته، وفاتها أيضا أنك قدمت كل شىء لها ولأخوتك، ونسيت نفسك، ومن حقك الزواج والاستقرار، وأنت مؤهلة لتكوين أسرة ناجحة بكل المقاييس.
وكل شاب يدرك أنه لا يوجد فى الحياة ما يوازى الارتباط بامرأة إيجابية تمنحه الوقود اللازم للنجاح فى الحياة.. والمعاناة التى واجهتيها فى حياتك هى أساس نجاحك، وهى دافعك للمواظبة والتحمل ومواجهة التحديات، وفى ذلك تقول هيلين كيلير: «لا يمكن تطوير الشخصية بسهولة وهدوء إلا من خلال المعاناة والتجارب، فهى تقوى الروح وتوضح الرؤية، وتلهم الأشخاص وتحقق النجاح».
وتوازن المرأة الناجحة بين حاجات الروح والجسد وبين الحياة العائلية وحياتها العامة، وفى العادة تدور حياة الفرد حول فئات رئيسية هى: الأسرة والأصدقاء والصحة والثروة والروح، ويجب أن يحقق الإنسان التوازن بين هذه الفئات، وإلا فإنه لن يعيش حياة طبيعية متوازنة.
إن الموازنة بين هذه الفئات هى الرصيد الذى يكبر كلما زادت خبراتنا وتجاربنا فى الحياة، وتسمح لنا الحياة المتوازنة بالتفكير بوضوح والتفاؤل فى المستقبل.
وأراك قادرة على تحقيق ما تتطلعين إليه من استقرار، وراحة وهدوء، وأرجو من أمك وأخوتك أن يساعدوك ويؤازروك، ويردوا الجميل لك، وليت أعمامك وأخوالك يعون فداحة جرمهم بحرمانكم من الميراث، فيعيدون إليكم مستحقاتكم، وتعم الطمأنينة حياتكم، وإنى على يقين من أن الله سوف يعوّض صبرك خيرا، ويرزقك الزوج الصالح الذى تواصلين معه مشوار الحياة، والله المستعان.
رابط دائم: