بحلول منتصف يوم العشرين من يناير 2021م، وبغض النظر عن أى مناكفات عبثية، سيكون الرئيس (السابق) ترامب خارج البيت الأبيض، والرئيس (المنتخب) جو بايدن داخله، وستكون الفرصة متاحة لعالمنا الذى يكاد الرئيس الأمريكى يكون رئيسه، لاستعادة مفهوم التقدم من قبضة العنصرية، والليبرالية من أنياب الشعبوية، بل مفهوم الحقيقة نفسه من براثن عصر ما بعد الحقيقة الذى استحال العالم فيه ساحة صاخبة لمعارك وصراعات وقضايا لا رابط بينها، معرضا لأفكار مسطحة تقاس بحاصل ضرب طولها فى عرضها دون نظر إلى عمقها، حيث طلب السلطة والتنافس عليها يدور فى فلك الإغواء والإيهام والتحايل بديلا عن الخطابات الأيديولوجية التى تنطوى على رؤية للعالم وتصورات عن المستقبل، لأن الناخب فى جمهورية التواصل الاجتماعى لا يبحث عن جذور القضايا المثارة ولا يتساءل حول عدالتها وإنسانيتها بل يطلب حلولا بسيطة لها، تتوافق مع وعيه الاختزالى وغرائزه السياسية، ولهذا يرفع زعامات وهمية تلبى طلبه السياسى العقيم، غير عابئ بخلفيتها التى قد تكون طائفية هنا وشعبوية هنا. فى عصر ما بعد الحقيقة، حيث الظل يسبق الجسد نفسه، والألفاظ تغنى عن المعنى ذاته، بات ممكنا أن تدار المعارك ويغتال الأشخاص معنويا على مذبح الوسائط التكنولوجية، تحت أقدام طوفان المعلومات والصور التى يجرى تبادلها كل لحظة فى تيار فياض يكاد يغرق الجميع من دون تدقيق أو حذر، بل ربما بتعمد ترويج الكذب وتعميم الخطأ، فطبيعة تلك الوسائط تفترض من المرسل والمستقبل سرعة فى رد الفعل، وإيجازا فى التعبير عن الانفعالات والمشاعر والأفكار، فما يقبل التبادل هو الأخف وزنا والأصغر حجما والأكثر مباشرة، وهنا يتراجع كل ما هو عميق ومركب من أفكار ويتقدم كل ما هو بسيط واختزالى من معلومات, لأن المعلومة تحتاج إلى مساحة من الخيال تتحرك فيها كى تصبح فكرة عن شىء ذى معنى ودلالة.
قد يختلف المفكرون فيما بينهم على صعيد عمق التحليل، أو درجة التمرد على المألوف، كما يختلف الأدباء فى مساحات الخيال، أو فى القدرة على السرد، ولكن يبقى لكليهما، المفكر والأديب، حق الادعاء بأنه مهموم بمصير الإنسان، أو معنى بمفهوم الحقيقة، حسب أى تصور، ناهيك عما هو مؤكد من جد واجتهاد وعكوف يفرضه كتابة أى نص ولو كان سيئا، فالسوء على هذا المستوى يعكس تراكما يتطلب عرقا ووقتا وحدا أدنى من موهبة. وفى المقابل لا يملك مدون التويتة ولا كاتب البوست شيئا من ذلك على الأرجح. ربما كان هذا الشخص أو ذاك مهموما بقضية ما، ولكن اهتمامه بها يأتى على طريقته الخاصة جدا، والانطباعية تماما.
منذ صارت التويتة والبوست سيدين للموقف الإنساني، بات العالم أسيرا لقادة دون مستوى تحدياته، لا تجذب الأفكار الكبرى أغلبهم ولا تمثل الحقيقة غايتهم، فقد مات مؤلف النص السياسي/ الأيديولوجى إكلينيكيا، ليصعد القارئ/ الناخب على جسده. تراجع حضور القادة الملهمين وتقدم الجمهور الحانق الذى لا يكترث سوى بالمشهد واللحظة، فصارت المشهدية هى السيدة والسائدة. إنه الواقع الذى أجاد الرئيس ترامب اغتنامه فى رحلة صعوده إلى سدرة العبث السياسى والفوضى الأخلاقية، فقد بدا خطابه للوهلة الأولى، حادا وجذريا، وتصوره للعالم بسيطا ومسطحا، قريب الشبه جدا بالتويتة التى يدونها مستخدمو تويتر، أو البوست الذى يكتبه رواد فيسبوك، وبعيد تماما عن أى فكرة لدى فيلسوف أو خاطرة أدبية فى خيال قاص أو روائي. لقد أجاد ترامب توظيف سطحيته ليصبح أقوى رجل فى العالم بصياغة مواقف شعبوية عبر عنها بطريقة مستفزة ودرامية، تخيلنا أن استفزازيتها سوف تهزمه منذ البداية، فإذا بدراميتها تنتصر له فى النهاية. وفى ممارسته الفعلية للسلطة كان الرجل وفيا لكل وعوده، أحال توهمات ما بعد الحقيقة إلى حقائق واضحة، أعلن كثيرا من قراراته من منصة تويتر، وصاغ معظمها انطلاقا من وعى غريزى يقوم بأفعال شرطية تنتمى إلى عالم الذهن بأكثر مما تنتمى إلى عالم العقل، ويدوس كل ما هو رمزى وأخلاقي، طالما كان ذلك ممكنا لا تحول دونه قوة صلبة تحرمه من منفعة شخصية أو تعاقبه على مسالكه المبتذلة، فالرجل يصرح بما يفكر فيه، ويقول ما يريده، ويفعل ما يقوله، ويمارس مغامراته غير المحسوبة على كل الأصعدة، بينما يتعين على الآخرين، طالما كانوا عقلاء أو يملكون حسا أخلاقيا بالمسئولية عن عالمهم، أن يعملوا كرجال مطافئ لحرائق لم يتوقف الرجل عن إشعالها يوميا، بعد أن وضع سيف العبث والهمجية والظلم والبداوة على رقابنا جميعا، وجعل من عالمنا محض رهينة لا تملك خيارا خارج حدين: إما الخضوع المذل، أو الموت غير الرحيم. وعلى هذا أصبح ترامب تجسيدا لذلك النوع السيئ والخطير من القادة الذين عادوا التقدم وسعوا لإخضاع التاريخ لغريزة القوة، بل إعادته إلى حالة الطبيعة الأولى، تلك التى كان الفيلسوف الإنجليزى توماس هوبز قد أجاد فى وصفها باعتبارها همجية مطلقة، يبدو فيها الإنسان ذئبا حتميا لأخيه الإنسان، والعلاقة بين الجماعات والدول مجرد انعكاس لقوانين الحياة الحيوانية فى الغابات الاستوائية الكبرى. لقد بلغت الديمقراطية الليبرالية مع ترامب قاعا سحيقا، ونالها من الإنهاك ما أثار الشكوك فى مستقبلها، فلم تعد كما كانت قبل ربع القرن أيقونة يُنظر إليها باعتبارها المحطة الأخيرة على طريق التطور التاريخي. كما بلغت الديمقراطية الأمريكية بالذات حافة الشك فى ظل انقسام جذرى يضغط بقوة على مؤسسات الدولة الفيدرالية، ولكن يظل اعتقادى الشخصى هو سلامة الأسس الجوهرية التى تنهض عليها ليس فقط التجربة الأمريكية، بل كذلك مفهوم الديمقراطية، فما يمثله من غايات تحررية وإدارة رشيدة للتنوع البشري، إنما يبقيه وعدا جميلا لمسيرة الإنسان على طريق التقدم، الذى كان ترامب حجر عثرة عليه، يجرى الآن تجاوزه ونفيه إلى هامش التاريخ.
[email protected]لمزيد من مقالات صلاح سالم رابط دائم: