فى عالم الصحافة التقليدية كان الشخص متلقيا للرأى والخبر لا أكثر. أما فى فضاء الانترنت فهو أيضا صانع ومنتج، يروج أحاديث، وينقل أخبارا، ويعبر عن آراء. هذه إشكالية العالم الافتراضي، يرتاده الناس فى أى وقت، دون ضوابط، يعبرون على شاشة الكمبيوتر أو الهاتف المحمول عما يدور بداخلهم، دون تهذيب. وتظهر ثقافة الشخص فى الموضوعات التى يختارها، وأسلوبه فى الحديث عنها، وطريقته فى الحوار مع غيره. وإذا تراجعت الثقافة، طفا على السطح الكثير من أوجه الجهل، وغياب المعرفة، والإساءة للذات والآخر. تنطبق هذه الظاهرة على المساجلات العقيدية التى ينشغل بها البعض، ويعبرون فيها عن تعصب وضيق أفق، ويعتبرون أنفسهم حراسا للعقائد، وفرسانا للمعابد، وهم أبعد ما يكونون عن التدين الحقيقي.
من المؤسف أن نجد فريقا من رواد مواقع التواصل الاجتماعى ينشغل بأحاديث المفاضلة بين الأديان، والاستعلاء فى مواجهة الآخرين، والطعن فى عقائد غيرهم. وقد هالنى كم السخف الذى ينخرط فيه بعض الشباب عند الحديث عن عقائد بعضهم البعض. لغة هابطة، وسباب، وإهانة متعمدة، وربما يظنون أنهم ينصرون عقائدهم حين يتحدثون بهذه الطريقة، فى حين يثبتون أنهم لم يتعلموا من مكارمها وفضائلها وآدابها شيئا. وهل ينصر الناس الإسلام أو المسيحية حين يطعنون فى عقائد بعضهم بعضا فى فضاء الانترنت، بينما يعج الواقع بمشكلات الفقر، ومعاناة البسطاء هل هؤلاء متدينون حقيقيون حين يتعاركون الكترونيا، بينما واقعهم مفعم بالعديد من صور المعاناة؟
هؤلاء ليسوا متدينين حقيقيين، لأنهم لم يفعلوا شيئا لتطوير نوعية الحياة، كل ما فعلوه هو اشاعة اجواء من الغضب، والتعصب، والجهل، والاحتقان، والبغضاء فى العلاقات بين الناس. المتدين الحقيقى هو من يشارك فى الحياة، ويساعد الفقراء على التعليم والعلاج والغذاء، ويحررهم من عوز الواقع حتى يشعروا بإنسانيتهم، ويدركوا أن التدين حرية، ليست حرية السباب والخوض فى عقائد الآخرين، ولكن بتغيير الحياة إلى الأفضل. ويحفل التاريخ بقصص أشخاص قدموا خدمات جليلة للإنسانية، ومجتمعاتهم، ويمارسون تدينا حقيقيا دون أن يتباروا فى الإساءة إلى عقائد غيرهم.
وبالرغم من ذلك، فإن هؤلاء الشباب هم ضحايا أكثر منهم جناة، يمارسون الخطأ، لأن المجتمع لم يقدم لهم ثقافة انسانية، وخطابات دينية تطور أفكارهم، وتعليما يرقى بقدراتهم. هذه ليست مشكلة اليوم، ولكنها نتاج تراكم مشكلات على مدار عقود. هم منتج نظام تعليمى ظل لفترة طويلة يقوم على التلقين، ولا يسمح بممارسة التفكير النقدي، ولا يعبأ بتقديم ثقافة انسانية ترفع من وجدان الأجيال الشابة. هم أيضا منتج خطابات دينية سطحية، لم تشغلهم بقضايا الاستنارة والحرية والتنمية، وشغلتهم بأمور شكلية، لا تمس جوهر تطور المجتمع. هم كذلك ضحية لانصراف المثقفين عن جهود تنوير المجتمع بحثا عن مصالح خاصة بهم، ينتجون لأنفسهم، ويدورون حول ذواتهم، ولم يشتبكوا مع قضايا التغيير. ومن اللافت أن هؤلاء لم يتعلموا كيف يعبرون عن أنفسهم بلغة سليمة، وتجدهم فى مساجلاتهم على مواقع التواصل الاجتماعى يستخدمون عبارات وألفاظا لا تمت بصلة إلى قواعد اللغة العربية وأصولها. ورغم أن المجتمع انشغل فى الفترة الماضية بظاهرة المساجلات العقائدية على الفضاء الالكترونى لخطورتها، وهى بالفعل خطيرة، وتحركها أطراف تبغى إشاعة الفتنة، لكنى أتصور أن المشكلة أكثر تعقيدا من ذلك، لأنها تعبر عن حالة مركبة، هى أزمة جيل بأكمله، لأن هؤلاء كما يتنابذون بالعقائد، ويستبيحون مقدسات، تجدهم حاضرين فى مشكلات عديدة فى المجتمع، هم يتصالحون مع الفوضى، ويتحايلون على القانون، ويمارسون التحرش والعنف لفظيا وبدنيا، والسبب هو غياب التكوين الثقافى والعلمى والديني، الذى يتيح لهم النظرة الايجابية فى الحياة. ولا استطيع أن أحمل طرفا المسئولية دون آخر، لأن فى حالة المشكلات المركبة تتعدد الأطراف المسئولة، لأنه كما أن التقدم منظومة، فإن التردى أيضا منظومة. وبالتالى نجد أنفسنا أمام ذات النهج المتعدد الأطراف الذى نردده دائما.. التعليم، الإعلام، المؤسسات الدينية والثقافية، منظمات المجتمع المدني، وغيرها.
إذا أردنا أن نغير بوصلة التفكير بين الشباب تجاه التنمية والتغيير والعلاقات الاجتماعية الايجابية، ينبغى أن تقدم لهم المؤسسة التعليمية ثقافة انسانية ترقى بالوجدان، وتشغل الخطابات الدينية تفكيرهم بقضايا التحرر من الفقر والاستغلال والنهوض بحال الانسان، وتقدم لهم منظمات المجتمع المدنى مساحة من المشاركة لدعم الفئات الأكثر احتياجا، وخدمة الانسان دون نظر إلى لونه أو معتقده أو نوعه، وتوفر لهم الأحزاب فرصة المشاركة الايجابية، والانشغال بقضايا عامة تبعدهم عن التفكير فى صراعات الذات والهوية والسجال الديني.
لمزيد من مقالات د. سامح فوزى رابط دائم: