تناول مقال الأسبوع الماضى بعض التعقيدات التى تكتنف تفعيل طريقة بايدن الذكية فى التعامل مع المعضلة الإيرانية، وركز على الشروط المتبادلة التى يضعها كل من الطرفين الأمريكى والإيرانى لإنقاذ الاتفاق النووى، أما مقال اليوم فإنه يتطرق لموقف إسرائيل من تصريحات بايدن حول استعداده للعودة المشروطة للاتفاق النووى من جهة ، واحتمالات تقييد البرنامج الصاروخى الإيرانى فى حال الجلوس مجددا للتفاوض حول الاتفاق النووى من جهة أخرى.
فى جريدة تايمز أوف إسرائيل كتب الصحفى الإسرائيلى رافائيل آهارين فى 9 نوڤمبر متسائلا عما عسى أن تطلبه دولته من ترامب وهو يوشك على مغادرة البيت الأبيض، وطرح من جانبه عدة إجابات /خيارات بهذا الخصوص هى: ضم الضفة الغربية، وتوقيع مزيد من العقوبات على إيران، وبيع أسلحة متطورة لإسرائيل. وحول نقطة إيران ذكر آهارين نقلا عن چنرال إسرائيلى متقاعد أن الأولوية بالنسبة لبنيامين نيتانياهو يجب أن تكون هى استمرار الولايات المتحدة خارج الاتفاق النووى، ومما يمكن فعله لتحقيق ذلك صدور إعلان من الرئيس ترامب يجعل من الصعب على الإدارة القادمة إحياء الاتفاق الفاشل على حد تعبيره. ولئن كان من المستبعد صدور مثل هذا الإعلان, فإن هناك أفكارا أخرى تتعلق باستمرار معاقبة الأنشطة الاقتصادية الإيرانية الداعمة للإرهاب ونشاط الحرس الثورى بشكل يحرج القيادات الإيرانية أمام الرأى العام الإيرانى، وبالفعل فإن ترامب مستمر فى تشديد العقوبات الاقتصادية على إيران خلال الفترة المتبقية له فى السلطة. أما إن عاد بايدن بالفعل للاتفاق النووى فإن وزير الاستيطان الإسرائيلى يرى أنه لن يكون أمام بلاده إلا الدخول فى مواجهة عسكرية مع إيران. لكن فى واقع الأمر فإن مثل هذا التهديد الإسرائيلى بضرب إيران لا ينبغى التعامل معه بجدية لسببين، الأول أن بايدن أعلن خلال حملته الانتخابية أنه مستعد للعودة للاتفاق النووى ومع ذلك فإنه حصد عددا ضخما من أصوات يهود أمريكا، وهو ما يعنى أن هناك وجهة نظر تعتبر أن سياسة بايدن تجاه إيران ربما تخدم إسرائيل سواء من باب أن الحفاظ على منسوب من التهديد لإسرائيل يساعد على التماسك الداخلى الهش فى ظل كل الصراعات الحزبية المعروفة، أو فى المقابل من باب أن هذه السياسة الأمريكية المنفتحة على إيران قد تشجع على تقوية وضع الإصلاحيين فى إيران، وبالتالى تسهم فى ترشيد السلوك الإقليمى الإيرانى. أما السبب الثانى لعدم التعامل بجدية مع تهديد وزير الاستيطان الإسرائيلى فهو أن الانسحاب الأمريكى من الاتفاق النووى تم بعد 3 أعوام من توقيعه فى عام 2015 فلماذا لم تقرر إسرائيل مواجهة إيران عسكريا على الأقل فى ظل إدارة أوباما التى استمرت حتى مطلع عام 2017؟. بناء عليه وفِى ظل التحليل السابق يمكن القول إن ما قد تسعى إسرائيل لتحقيقه هو الضغط من أجل تسريع وتيرة التطبيع مع الدول العربية ما يؤدى إلى تغيير البيئة الإقليمية التى تنشط فيها إيران طالما لازال من المتعذر تغيير إيران نفسها.
نأتى لمسألة تعديل الاتفاق النووى، ولقد تولدت أثناء فترة ترامب قناعة أمريكية أوروبية مؤكدة أن هذا الاتفاق بصورته الحالية غير قابل للاستمرار ، وأن النشوة الأولية بتقييد السلوك النووى الإيرانى بعد مفاوضات طويلة ومرهقة شابتها مماطلة إيرانية ، هذه النشوة تبددت بعد اتضاح عيوب الاتفاق ، وهى عيوب إجرائية كمثل النص على إمكانية تفعيل آلية الزناد والانسحاب الأحادى من الاتفاق دون عودة لمجلس الأمن فى حال تأكد أحد الأطراف من تحلل الطرف الآخر من التزاماته .كما أنها عيوب موضوعية - وهذا هو الأهم - لأن الاتفاق تعامل مع البرنامج الصاروخى الإيرانى بشكل غير ملزم، إذ إن قرار مجلس الأمن رقم 2231 الذى تضمن الاتفاق نصا على دعوة إيران لعدم القيام بأى نشاط يتصل بالصواريخ الباليستية القادرة على إيصال أسلحة نووية. وهذا النص سمح للمسئولين الإيرانيين، أولا بالتأكيد على عدم إلزامية القرار الأممى لهم طالما أنه قد تحدث عن دعوة أو call upon لإيران ولم يتحدث عن ينبغيات كما كان الحال مع قرار مجلس الأمن رقم 1929 شديد الصرامة الذى صدر عام 2010 وفيه قرر مجلس الأمن ألا تضطلع إيران بأى نشاط يتصل بالصواريخ الباليستية القادرة على إيصال الأسلحة النووية. وثانيا بالادعاء إن صواريخ إيران الباليستية غير مجهزة برؤوس نووية. أكثر من ذلك فإن هذا القيد الأممى الناعم على البرنامج الصاروخى الإيرانى سيزول بعد ثمانى سنوات من تاريخ الاتفاق أى فى أكتوبر 2023.
لكن هذا الخلل الذى اتضح للجانبين الأوروبى والأمريكى فيما يخص البرنامج الصاروخى الإيرانى، من المستبعد إقناع الجانب الإيرانى بالقبول بتغييرات جوهرية تمسه لأن معناه تجريد الجمهورية الإسلامية من أهم أسلحة الردع التى تحوزها بشكل عام وفِى مواجهة إسرائيل بشكل خاص . وبالتالى ففى حال إعادة التفاوض على الاتفاق النووى وتجاوز مسألة من هو الطرف الذى يبدأ بالعودة أولا: إيران أم الولايات المتحدة، فإن الأرجح أن تبدى إيران مقاومة لتقييد قدراتها الصاروخية الباليستية، وفِى المقابل فإنها قد تبدى بعض المرونة التى تتعلق بإطالة المدى الزمنى للاتفاق، أو بالشروط الخاصة بتفتيش الوكالة الدولية للطاقة الذرية لمنشآتها النووية، أو حتى بتحجيم تدخلاتها فى الشئون الداخلية للدول العربية.
لقد بدأ العد التنازلى لانتقال السلطة من ترامب لبايدن، وباق زهاء شهرين على حدوث ذلك، وفِى خلال هذين الشهرين سنشهد محاولات لإضعاف فرص العودة الأمريكية للاتفاق النووى وتخفيف الضغط الاقتصادى على إيران، وهى محاولات تشترك فيها الأطراف الإقليمية الساعية لأن تكون إعادة التفاوض على الاتفاق النووى فيها إذعان إيرانى كامل للإرادة الأمريكية، مع القوى الإيرانية الداخلية المحافظة التى ترى أن الانفتاح الأمريكى على إيران يخدم التيار الإصلاحى ويعزز فرصه الانتخابية، ونحن نعلم أن الانتخابات الرئاسية الإيرانية على الأبواب فى شهر يونيو المقبل، ومع أن هذه المحاولات قد تؤجل الجلوس إلى طاولة التفاوض إلا أنها لن تغلق باب التفاوض.
لمزيد من مقالات د. نيفين مسعد رابط دائم: