فى سيرته الفاتنة (طفل من حقول الكاكاو) يحكى الروائى البرازيلى جورج أمادو، الكاتب الذى عبر عن الروح البرازيلية الحقة كما وصفه نقاد أمريكا اللاتينية، عن البهجة والجحيم، الحياة والموت، الوجود والعدم، أن يصير المكان مأوى لزراعة المخدرات أو الكاكاو، أن يملكه بارونات ولصوص، ويقطنه ودعاء وطيبون، كل شيء ونقيضه إذن فى بنية روائية متجانسة من حيث الشكل الفني، لكنها تضج بالتناقضات من حيث الدلالة. وفى البرازيل أيضا وهى واحدة من أبرز قلاع كرة القدم فى العالم وموطن الكرة الجميلة، يحكى روماريو اللاعب البرازيلى الشهير الذى حمل كأس العالم من قبل عن نشأته المتعثرة، عن التعاسة، والفقر، عن لحظة الفرح التى تقتحم حياة الصبى حين يأتى والده بهدية عيد ميلاده التى كانت دوما كرة قدم صغيرة وتمثل كرة القدم نشاطا إنسانيا متعدد الوجوه، يتطور باستمرار ليصبح صناعة مكتملة الأركان، تحوى رعاة للبطولات المختلفة، وشركات للدعاية والإعلان، وإعلاما رياضيا ينقل ويتابع ويحلل. وللحفاظ على حيوية هذه الصناعة فإنها تحتاج لمناخات مختلفة من الوعى بأن الفريق المنافس ليس خصما ولكنه شريك فى إنتاج المتعة الكروية، وند قوى فى ميدان عادل، يجب احترام تقاليده ونتائجه، والخروج عقب المباراة برداء من المحبة الخالصة. وقد أحسن صنعا رئيس المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، ووزير الشباب والرياضة، حين أطلقا مبادرة (مصر أولا.. لا للتعصب)، وتأتى المبادرة التى تلقى دعما حقيقيا من الدولة المصرية فى سياق مؤثر، وقبل مباراة مهمة تترقبها جماهير الكرة المصرية والعربية والأفريقية حين يلتقى الناديان المصريان العريقان الأهلى والزمالك فى المباراة النهائية فى دورى الأبطال الأفريقي، وقد لعبت ماكينات الشحن الإعلامى وفضاءات السوشيال ميديا والمناخات التى سبقت المباراة دورا سلبيا فى خلق حالة من التوتر المفتعل، الذى لا يليق بلعبة أسمى ما فيها هو ثقافة التنافس، وقبول الخسارة بروح رياضية، واللعب النظيف، والأداء المخلص، والتفانى حتى آخر لحظة من عمر المباراة، والأهم إمتاع الجماهير واللعب بمهارة، وفن، وفاعلية تخلق الفارق، وتضع من يستحق فى الصدارة.
وتكمن أهمية مبادرة ( مصر أولا.. لا للتعصب)، فى أنها تجعل الوطن أعلى من التحزب الكروي، فالبقاء الفعلى للوطن دائما، وهو الغاية والهدف، وليس أقل من أن نظهر فى يوم المباراة فى السابع والعشرين من نوفمبر بمظهر متحضر يليق بتراكمات الحضارة المصرية وتنوعها الخلاق.
تعرف الرياضة الحقيقية التنوع، وتؤمن بأن الفوز مؤقت، والهزيمة عابرة، ولإنجاح المبادرة يجب أن تؤمن بها منظومات اللعبة كافة، وأن تشارك فى تدعيمها، وتتحول من التكريس اللفظى لها إلى التكريس الفعلي، بدءا من الإعلام الرياضى الذى يعانى مشكلات جمة، واستقطابات حادة، ومرورا بالرعاة وشركات الدعاية التى يجب أن تلعب دورا فى تخفيف مناخات الاحتقان عبر إنتاج برامج للتوعية، تتخذ صيغا جديدة تليق بمشجع القرن الحادى والعشرين، وتأخذ فى اعتبارها الخيال التكنولوجى الجديد الذى صاحب مواقع التواصل الاجتماعى وزخمها المكثف.
إن أقسى شيء يمكن أن يواجه أى أمة، يتمثل فى شيوع قيم التعصب والكراهية، لأن التعصب خيط من خيوط التطرف والجنوح، والميل العدواني، والخلاص من التعصب هو فى حقيقته خلاص من طاقة سلبية تهيمن على الإنسان وتحيله إلى تابع لأفكاره الجامدة التى لا تتغير حتى لو وقف المرء على كذبها وخوائها، وهنا تكمن الكارثة حقا. إن التعصب الكروى سلسلة من مناخ يعلى من قيم الكراهية على حساب قيم التسامح، ومن ثم فلا يمكننا أن ننظر إلى حالة التلاسن بين جماهير الكرة مثلا دون أن ندرك علاقة الجزء بالكل، فالتنمر وتصدير الطاقات السلبية وإطلاق الشائعات جزء لا يتجزأ من سياقات التعصب، ولذا فإن ثمة حاجة حقيقية إلى إشاعة مناخ من المحبة، والتسامح، وقبول الآخر، والإيمان بالاختلاف، والوعى بأهمية التنوع، والاعتقاد بأن البشر خلقوا مختلفين، لكنهم ليسوا متناحرين، وإنما تجمع بينهم مظلات عديدة، بدءا من الوطن ذاته، ووصولا إلى الإنسانية نفسها.
فى المشهد الختامى من فيلم الحريف للمخرج المبدع محمد خان، يمر فارس بالكرة بعد معاندة من اللاعب الشاب ( الفنان عبدالله محمود)، وينجح فارس أو الحريف أو النجم عادل إمام فى تسجيل الهدف وسط فرحة ابنه الذى يود أن يشبهه. كل شيء كان مؤهلا للفرح، عدا رزق الذى أدى دوره باقتدار الفنان عبد الله فرغلي، رزق وحده الذى يريد الاستحواذ على فارس، أو استبداله بالحريف الجديد. تبدو الكرة هنا لعبة للصبر والانتظار، الترقب والفرح، الفوز والخسارة، لكنها لن تكون أبدا لعبة للكراهية، أو التعصب، لأنها حينئذ ستفقد جدوى وجودها ومعناه.
لمزيد من مقالات د. يسرى عبد الله رابط دائم: