منذ تأسيسه حوالى عام 1828 على يد الرئيس أندرو جاكسون، مر الحزب الديمقراطى الأمريكى بأزمة هوية، حيث تراوحت أجندته السياسية من أقصى اليسار إلى اليمين، وظلت تتراوح بين الجانبين إلى أن ظهرت أربعة أجنحة داخله، وهم الراديكاليون «التقدميون»، والوسط، والمحافظون، والمعتدلون. وعلى مدى ما يقرب من 200 عام على تأسيسه، تولى 15 ديمقراطيا رئاسة الولايات المتحدة، وكان آخرهم باراك أوباما.
وبعد 4 سنوات من صدمة فوز دونالد ترامب بانتخابات الرئاسة الأمريكية فى 2016، وهزيمته للمرشحة الديمقراطية هيلارى كلينتون، اتحد الحزب الديمقراطى الأمريكى على هدف واحد، وهو رد الصفعة لغريمهم التقليدي، الحزب الجمهوري، وهو ما تحقق بالفعل فى 2020. وبمجرد إعلان فوز جو بايدن، بدأت الانقسامات التى احتدمت منذ فترة طويلة بين الديمقراطيين فى العودة إلى السطح، حيث يواجه الرئيس المنتخب خلافات عميقة، سواء صراع أجيال أو على المستوى الأيديولوجى بين المشرعين فى الكونجرس أو بين النشطاء وحتى بين القاعدة الشعبية التقليدية. وظهرت «خطوط الصدع» بمجرد إعلان هزيمة بايدن لترامب، حيث توجد كتلتان أساسيتان الآن، الأولى معتدلة والثانية تقدمية. ويرى المعتدلون أن نجاح الرئيس المنتخب، خصوصا فى ولايات الغرب الأوسط، التى استحوذ عليها ترامب منذ 4 سنوات، يعتبر دليلا على نجاح المرشح الذى قاوم أجندة التقدميين «المتطرفة»، وهو ما مكنه من الفوز بالناخبين الذين تخلوا عن الحزب الديمقراطي، وشملت تلك الأجندة الرعاية الصحية للفرد، والإجراءات الصارمة لمكافحة تغير المناخ وزيادة عدد أعضاء المحكمة العليا.
ويرى الديمقراطيون المعتدلون أن إلحاح المشكلات التى تواجه الولايات المتحدة ربما تنهى أو تؤجل الخلافات بين الأجنحة الأيديولوجية داخل الحزب. علاوة على ذلك، قالوا إن الأداء المخيب للآمال بين الديمقراطيين فى سباق الكونجرس، حيث فقدوا قرابة 11 مقعدا فى مجلس النواب ويواجهون صراعا من أجل تضييق الفجوة مع الجمهوريين فى مجلس الشيوخ، وهو ما سيمنح مساحة أقل لدفع بايدن باتجاه اليسار. وتبادلت الكتلتان الاتهامات حيث تم تحميل التقدميين الذين دافعوا عن أفكار مثل وقف تمويل الشرطة أو رعاية صحية للجميع ودافعوا باستماتة عن «حركة السود مهمة» مسئولية خسارة مقاعد الكونجرس، وهو ما دفع قادة الحزب بعيدا عن اليسار بسبب رفض الناخبين خصوصا فى الولايات المتأرجحة هذه الأجندة المتطرفة من وجهة نظرهم. ومع ذلك، فإن التقدميين، من أمثال بيرنى ساندرز وإليزابيث وارن بل وكامالا هاريس نائبة الرئيس، الذين دعموا بايدن كوسيلة لهزيمة ترامب، خصوصا الأصغر سنا منهم والذين اكتسبوا موطىء قدم فى الكونجرس وبين نشطاء الحزب، يشككون فى إدارة مرشحهم المقبلة.
وحذرت وارين من أن نهج «الإسعافات الأولية» أو تبسيط الحلول لن يقدم حلا، وأن الحزب الديمقراطى لديه تفويض لاتخاذ إجراءات بشأن خطط جريئة لمواجهة الأزمتين الصحية والاقتصادية الناجمة عن فيروس كورونا. ورغم تصوير بايدن نفسه بأنه براجماتى يهدف للم الشمل، فإن هذه الانقسامات ستفرض نفسها على إدارته. ومع تشابه أجندتهما حول شعار «الشعب أولا»، وصف الرئيس الأسبق بيل كلينتون أجندة بايدن بأنها جريئة وإصلاحية أكثر من كونها ثورية، لكنها مصدر للاستمرارية فى الأوقات المضطربة. ونتيجة إعادة جورجيا ستوضح ما إذا كان بايدن سيكون على خطى الرئيس الأسبق باراك أوباما، وسيبدأ فترة ولايته الأولى مع واشنطن «موحدة» أم «منقسمة» حيث يجب أن يكون واعيا لما يحاول الجمهوريون تصويره من أن الديمقراطيين اشتراكيون راديكاليون بعيدون عن أرض الواقع وحتى وصفهم بالشيوعيين وربطهم بالصين مثلما ردد ترامب. وسعى بايدن إلى تهدئة الخلافات المستعرة داخل الحزب، والتى وصلت إلى حد وصف ساندرز قيادات حزبه بأنهم «النخب الساحلية»، معربا عن اعتزامه أن تكون إدارته المقبلة قائمة على التنوع، لكن الجناح اليسارى الذى أصبح محبطا من فكرة التمثيل السياسى والعرقى ويبحث عن تنازلات من السلطة. فقد قدمت هذه المجموعة السياسية رسالة مزدوجة، الأولى ترحيب وتهان لبايدن، والثانية قائمة من المطالب، وهذه القائمة لا تتضمن فقط اختيار التعيينات الرئيسية فى الإدارة، ولكن استبعاد رجال «وول ستريت» وجماعات الضغط «اللوبي».
وحتى إذا وافق بايدن على قائمة اليسار، فإن هذه الموافقة سوف تتحول إلى معركة فى مجلس شيوخ «جمهوري». وقد يلجأ بايدن إلى محاولة تضخيم التحديات التى يواجهها لإسكات أصوات التقدميين المطالبة بتغيير جذري.وكانت ألكسندريا أوكاسيو كورتيز، أحد وجوه التقدميين فى الحزب، قد انتقدت الديمقراطيين لافتقارهم إلى الاعتماد على الكفاءات، وحذرت بايدن من خسارة انتخابات التجديد النصفى للكونجرس فى 2022. وهكذا فإن التبشير بموجة زرقاء ديمقراطية فى أمريكا مهدد بالصراع بين التقدميين الراغبين فى ثورة حزبية، والمعتدلين البراجماتيين الذين ينتمى إليهم بايدن.
رابط دائم: