رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

لويس عوض
صوت الهارمونيكا.. لماذا بكى في قصر الحمراء؟

د. إبراهيم منصور

  • أقام جامعة داخل المعتقل يدرّس فيها اللغات والآداب




كتب لويس عوض (1915 ــ 1990م) إهداءً فى صدر كتاب له، فكان الإهداء على النحو التالي: « إلى محمد مندور، سئمَ صُحْبةَ الأشباح القلقة، فتلقّى عنّى طعنةً ثم مضي، إلى وديان الآس والريحان والغفران العميم.» كان ذلك هو كتاب «على هامش الغفران» الذى مهر المؤلف مقدمته بتاريخ 7 يناير 1966م.



وكتاب «على هامش الغفران» كان فى أصله تسعة بحوث نشرت بين 16 أكتوبر و11 ديسمبر من عام 1965 فى «ملحق الأهرام». وقد قرئت البحوث التسعة على نطاق واسع، لكنها أنتجت أيضا سيلا من البحوث «المناوئة». ونشرت الردود فى «الرسالة» و «الثقافة» وهما مجلتان شهريتان، تصدرهما وزارة الثقافة، فبلغت تلك الردود «كمّاً» يساوى حجم المقالات الأصلية أضعافا مضاعفة، ويلخص لنا لويس عوض ما يسميه «فكرة مجملة عن صورتى فى ذهن نقّادي» فيقول إنى باختصار قائد الفكر اليمينى فى العالم العربي، كما استقر فى يقين بعض أدباء اليسار، كما أنى فى يقين بعض أدباء اليمين قائد الفكر اليسارى الماركسى الملحد فى العالم العربي، وفى يقين فئة ثالثة أنى آخر قنصل للعالم المسيحى فى مصر منذ الحروب الصليبية، وهذا هو رأى الأستاذ محمود شاكر كما أثبته فى مقالاته التى جمعها فى كتاب من مجلدين بعنوان «أباطيل وأسمار»

نعم، أخطأ لويس عوض حين قال إن موضوع رسالة الغفران لأبى العلاء المعري، والموازنة بين الشعراء فى أدب الآخرة الساخر، من رواسب الأدب اليونانى فى الأدب العربي. لكن لويس عوض، ونقّاده جميعا، وقعوا ضحية المدرسة الفرنسية فى الأدب المقارن، مدرسة «التأثير والتأثر» أما لو عدنا اليوم لكتاب «على هامش الغفران» سنجده فى صلب الأدب المقارن بمعناه المتطور، الذى يعتمد «الموازنة» لا المقارنة القائمة على التأثير والتأثر.

لم تكن معركة «على هامش الغفران « أول معركة فكرية وأدبية يخوضها لويس عوض، بل سبقتها معركة الشعر، حيث كانت قولته الشهيرة «إن قول القائل: «ورمش عين الحبيب يفرش على فدان» يعدل عندى كل ما قدم المستعربون من قريض بين الفتح العربى عام 640م ومحمود سامى البارودي» وبعد مقالات الغفران جاءت معركة « مقدمة فقه اللغة العربية» وأخيرا معركة «القومية العربية» التى شاركه فيها توفيق الحكيم وآخرون، ورد عليهم رجاء النقاش بكتاب عنوانه «الانعزاليون فى مصر»

كان لويس عوض يعمل على مشروع من الوزن الثقيل، فشرع يترجم «نصوص النقد الأدبي» من أصولها اليونانية واللاتينية، فبدأ بكتاب «فن الشعر لهوراس» ترجمه عن اللاتينية، وأهداه لطه حسين، ثم شرع يترجم نصوصا، هى أجزاء كتاب جمهورية أفلاطون، ومحاورة «أيون» له، ومسرحية الضفادع الكوميدية لأرسطوفان. وألحق بها معجما للأساطير اليونانية، لا يعرف قيمة هذا العمل الجبار اليوم إلا من يدرّسون «نظرية الأدب» والنقد الأدبى فى أصوله الكلاسيكية والأوروبية.

إذا سألتَ مَن لويس عوض وما إنجازُهُ ؟ لقلتُ لكَ: لويس عوض أديب كتب الشعر (ديوان بلوتولاند 1946 ) والمذكرات (مذكرات طالب بعثة كُتب 1942) والمسرحية (الراهب) والرواية العنقاء، أو تاريخ حسن مفتاح) والسيرة الذاتية (أوراق العمر)

وهو مؤرخ كتب عن تاريخ مصر، خاصة تاريخ الفكر المصرى عدة مجلدات، وهو مترجم ترجم من الإنجليزية واللاتينية والفرنسية، فوضع أسس الترجمة الحقة إلى العربية، وهو باحث وأستاذ أكاديمى كتب الأطروحة العلمية، والبحث الأدبي، وألقى المحاضرات، وهو أخيراً الناقد الأدبى الذى لا يشق له غبار، كتب فى نقد الدراما، والرواية، والشعر، كما كتب فى نقد الكتب، والشخصيات.

يلخص لنا لطفى الخولى دور لويس عوض فى الثقافة العربية فيقول: عاد لويس عوض من بعثته فى انجلترا بعد الحرب العالمية الثانية فملأ الدنيا وشغل الناس، كما فعل المتنبى حين نزل مصر، وقد ظل لويس عوض محطّ اهتمام القراء العرب لآخر يوم فى حياته، وحتى الآن.

يقول عوض، فى مقدمة كتاب «على هامش الغفران» معزيا نفسه عن الهجمة الشرسة التى قابلت مقالاته «ولكم أعاننى على احتمال هذه الشدّة، أنى علمت أن دار الهلال قد وزعت من كتابى (البحث عن شكسبير) نحو ثلاثة عشر ألف نسخة فى شهر واحد، وأن «الكتاب الذهبي» وزع من كتابى (مذكرات طالب بعثة ) نحو عشرة آلاف نسخة فى عشرة أيام، فنفدت طبعته الأولي» . لا أستبعد أن يكون ما أشار إليه الدكتور لويس من إقبال القراء فى العالم العربى على كتبه، سبباً أصيلا من أسباب الهجوم الشرس عليه.

خلاصة القضية أن لويس عوض لم يكن يُسكتُ فى نفسه المنزع الفلسفى والفكري، فقد شرع يهدم ويبني، ويفسّر ويوازن ويقارن، ثم استوى لديه رصيد من العلم باللغات والآداب، جعله يضع النظريات فى الشعر، والأدب المقارن، وفقه اللغة.

لويس عوض طُرد خارج الجامعة، وسُجن، وكُتب فى تسفيهه وسبه ما يغرى بالانسحاب أو التراجع أو إعلان التوبة، لكنه لم يفعل. فكان ذلك أكبر دليل على أنه ليس ذلك اليسارى المتوحد فى عبادة الفلسفة المادية، ولا هو المثقف المتغرّب الذى رمى تراث أمته وراء ظهره، بل ظل يقاوم أهواء التعصب ونزعات التحيز، فكتب واحداً من أهم الكتب (أقنعة الناصرية السبعة) وفيه قيّم تجربة عبد الناصر، فكان حَكَماً مُنْصفا فى لحظة عز فيها هذا اللون من الكتابة والحكم.

الدكتور عبد السلام العجيلى (1918 ــ2006م) الطبيب والأديب السوري، الذى أصبح وزيرا للخارجية والإعلام، كان يتحدث فى الراديو، ذات يوم فسمعتُه يحكى فيقول: كان الدكتور لويس عوض اعتاد أن يعيّرنا نحن أبناء الشام بأننا نعانى من مرض «النوستالجيا» فكلما ذُكر الأندلس أخذتنا العاطفة نحو حنين مرضيّ للماضي، نبكى ذلك الفردوس الذى طُردنا منه، وكان يرى ذلك مدعاةً للسخرية، ... ذات يوم ذهبنا إلى الأندلس، وكان معنا لويس عوض، وبينما نحن فى قصر الحمراء فى غرناطة توقفتُ لأقول له: ما رأيك الآن، هل كنا على صواب؟ فنحّاه الدكتور لويس جانبا وقال له دعنى الآن، وإذا به يتخذ جانبا من المكان فى قصر الحمراء، ويشرع فى بكاءٍ مرير، يقول العجيلي، كان بكاؤه مسموعا ونهنهته تكسر القلب. هذا الرجل نفسه، حينما سجن، كان يحمل مقاطف البازلت ويسير حافيا، فلا يئن ولا يشكو، بل أقام جامعة داخل معتقل الفيوم يدرّس فيها اللغات والآداب: الفرنسية والإنجليزية والعربية (محو أمية)

لم يكن الحزن والأسى الذى بدا فى إهداء لويس عوض إلى محمد مندور آخر ما قرأنا من التأسّى وسرد الأحزان، فقد وجدناه فى آخر كتبه «أوراق العمر: سنوات التكوين» من أول سطر فى الكتاب يحكى «تاريخ الحزن» الذى عاش فيه، يقول «ظللت على اعتقادى أن مرقدى المختار سوف يكون فى مصر حتى عشت عشر سنوات تحت حكم السادات، فلم أعد أعبأ أين يكون مرقدي، وكنت أعتقد طول حياتى أن روحى لن تهدأ، إلا إذا دفن جسدى فى تراب مصر، حتى تولّى السادات الحكم فطهّرنى من هذه الأساطير المصرية... ثم يستطرد لن يفهم هذا إلا رجل يحس فى أعماقه، أن لحمه من تراب مصر معجونا بماء النيل، وعظامه من أحجار المقطم الجيرية، أو من صوّان أسوان»

لم يدرس لويس عوض اللغة العربية، مثل محمد مندور (1907 ــ 1965ـم) لكنه امتلك ناصية اللغة، على نحو يجعلنى أقول مطمئنا إنه واحد من قلائل امتلكوا أسلوبا عربيا رائقا، ومن المدهش حقا، أن نرى أثر القرآن الكريم، والتراث العربى فى أسلوبه ظاهرا على نحو لافت، خاصة فى كتاب «الغفران» فكيف كال له «نقّاده» كل ذلك السباب ؟!! أجد تفسير ذلك فى أنهم امتلكوا صوت الدَّرَبُكّة (الطبلة) أما لويس عوض فكان يعزف على الهارمونيكا.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق