رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

الاستشراق.. معركة لا تنتهى

صدر كتاب الاستشراق للمفكر الفلسطينى إدوارد سعيد منذ أكثر من أربعين عاماً، وحظى بعد صدوره بانتشار واسع وترجم خلال سنوات قليلة إلى أغلب لغات العالم، وللكتاب عنوان فرعى يوضح مضمونه: صور الغرب عن الشرق. وتقوم فكرته على أن الإنتاج الفكرى الغربى عن الشرق، عقائده وحضارته ولغته وأدبه هو أبعد ما يكون عن إظهار حقيقة الشرق فى الواقع، لأنه إما تمثيل أى عبارة عن تصور فى الذهن غير مستمد من وقائع ملموسة، وإما إسقاط أى تعبير عن نزوات أو رغبات مكبوتة فى اللاشعور. ولا يقتصر الأمر على كونه معرفة خاطئة بل هو فى حقيقته معرفة تهدف إلى السيطرة.

يتصور أن هناك ناشراً يمكنه أن يُقدم على نشر هذا الموضوع غير الجذاب. ولهذا لم يكن يتوقع هذا الانتشار السريع فى مختلف الثقافات والذى توزع بين الترحيب الحماسى والهجوم الشديد. فى الطبعة الثانية التى صدرت بعد ذلك بنحو خمسة عشر عاماً كتب سعيد خاتمة يعرض فيها تأملاته عن هذا النجاح الكبير ويحاول أن يمحو العديد من سوء الفهم الذى شاب التفسيرات المختلفة للكتاب. سوء الفهم الأول يتمثل فى استنتاج أن إدوارد سعيد معاد للغرب وللمعرفة الغربية بأسرها. وهذا التصور الخاطئ فى نظر سعيد نابع من افتراض ترادف غير مبرر بين الاستشراق من جانب والغرب من جانب آخر. سوء الفهم الثانى يتمثل فى أن الشرق كيان أو جوهر مستقل منغلق على ذاته وكذلك حال الغرب تصديقاً لقول الشاعر كبلنج: الشرق شرق.. والغرب غرب .. ولن يلتقيا. ويرى سعيد أن الهدف من الكتاب كان العكس تماماً فلا وجود لجوهر مستقل يسمى الشرق وآخر يسمى الغرب. والقراء حينما يتصورون ذلك فهم يعيدون انتاج المسلمات الخاطئة للمعرفة الاستشراقية أي يكررون نفس خطأ المستشرقين.الشرق والغرب وكذلك الاسلام والمسيحية تسميات تخضع لتفسيرات متجددة حسب اللحظة التاريخية وصراعات القوى. ولكن افتراض أن الكتاب يرسخ هذه النظرة الثنائية الضدية جعل سعيد يتعجب كيف جعل منه البعض منظراً للتطرف الإسلامى،بما أنه يدين نزوع الغرب للسيطرة وتوظيفه المعرفة لتحقيق هذا الهدف، فهو يدين المعرفة الغربية ويرى أن الإسلام هو الحل . ويرد سعيد بأن هذه المعانى لم تخطر على باله على الإطلاق. ويعتبر سعيد أن الكتب التى ألفها بين الطبعة الأولى والثانية لكتاب الاستشراق توضح بجلاء موقفه الفكرى، ومن هذه الكتب: الثقافة والإمبريالية، تغطية الإسلام، صور المثقف، القضية الفلسطينية، العالم والنص والناقد، والتي يبين فيها أن دور المثقف هو بناء جسور بين الثقافات وليس بناء أسوار عازلة. 

يعزو سعيد للكاتب وللمثقف دائماً خاصية التمرد والاقامة في التخوم بين الثقافات والتخصصات. فهو يسعى دائماً للخروج من إطار ثقافته القومية ومن إطاره الأكاديمى ويجعل مهمة المثقف المقاوم تتسم بثلاث سمات رئيسية: الأولى النقد، فهو الشرط المعرفى اللازم لكل مقاومة وبداية الانخراط فى طريق التحرر. الثانية العلمانية، ومعناها، حسب تحليله كتاب العلم الجديد للمفكر الإيطالى فيكو، أن التاريخ من صنع البشر، لا مجال فيه لحدوث المعجزات أو لتدخل قوى خارجية. ومعنى ذلك أن البشر قادرون على فهم التاريخ لأنهم هم الذين يصنعونه وهو ما يفتح المجال أمام تحقيق طموحهم إلى التحرر. الثالثة الإنسانية، وما تتضمنه من عناصر مشتركة بين الثقافات مثل نظريات العلوم  والقيم الأخلاقية وهو ما يبرر سعيهم المشترك للنضال ضد الظلم وتحقيق الحرية، ولهذا كان يرى فى دفاعه عن القضية الفلسطينية أنها ذات رسالة إنسانية تمثل حلقة مهمة فى نضال البشر ضد صور الظلم والاستعمار. 

كتابات إدوارد سعيد التى أعقبت صدور كتاب الاستشراق ساعدتنا فى الوصول لفهم أفضل لمضمون الكتاب. فبعد أن شاع تفسيره على أنه دعوة لإدارة الظهر للعالم وتنكر لمنجزات الفكر الغربى فى مجال العلوم الإنسانية ومطالبة ببلورة علوم خاصة بكل ثقافة، تحول الكتاب إلى نقد للتمييز والعنصرية ودعوة لأن يتحدث المضطهدون بأنفسهم عن أنفسهم ولا يتركوا أمر التعبير عن الذات للآخرين. ويمكن لنا أن نلاحظ هذا التباين فى الاستقبال للكتاب، على الأقل فى ثقافتنا العربية، إذا ما رجعنا إلى المقالات التى كتبت عقب صدور الكتاب وتلك التى كتبت بعد وفاة ادوارد سعيد. التباين كبير حتى نكاد نشعر أننا أمام كاتبين مختلفين. وفى النهاية سعيد كاتب كبير له إسهام مهم فى مجال النظريات النقدية ودراسات ما بعد الاستعمار والنقد الثقافى. وفى إطار إسهامه الأكاديمى هذا لم ينس يوماً أن هدفه هو المقاومة. وفى تعليق لسعيد على كتاب المؤرخ الإنجليزى إريك هوبسباوم: زمن التطرفات، التاريخ الطويل للقرن العشرين، يقول المؤرخ إن القرن العشرين هو قرن خيبة الآمال، ويرد ادوارد سعيد بأنه أيضاً قرن المقاومة.


لمزيد من مقالات د. أنور مغيث

رابط دائم: