يأتى سركون بولص كأحد أهم شعراء العراق وقصيدة النثر العربية فى النصف قرن الأخيرة، تعبيرًا عن حالة الوجع العراقى والاغتراب الممتد للشخصية العراقية سواء فى مجتمعها العراقى فى مرحلة النشأة والتكوين، فى فترة الصبا والشباب، أو الاغتراب المتمادى فى مكانها الآخر، مهاجرها ومنافيها ابتعادًا عن مكانها الأول وحرمانًا من وطنها.
إن لحالة الاغتراب الاجتماعى لدى سركون بولص تاريخًا قديمًا يحفظه وعى الذات فى ذاكرته، لما عَايَشه من معاناة الأب فى هذا المجتمع، كما فى قصيدة «أبى فى حراسة الأيام»:
(لم تكن العظمة، ولا الغُراب/ كان أبي، فى حراسة الأيام/ يشرب فنجان شايه الأول قبل الفجر، يلف سيجارته الأولي/ بظفر إبهامه المتشظى كرأس ثومة./ تحت نور الفجر المتدفّق من النافذة، كان حذاؤه الضخم/ ينعسُ مثل سُلحفاة زنجية./ كان يُدخّن، يحدّق فى الجدار/ ويعرف أن جدرانًا أخرى بانتظاره عندما يتركُ البيت/ ويقابل وحوشَ النهار، وأنيابها الحادة./ لا العظمة، تلك التى تسبحُ فى حساء أيامه كإصبع القدر/ لا، ولا الحمامة التى عادت إليه بأخبار الطوفان).
فى تمثيل شعر سركون بولص لاغترابية الذات فى وطنها، مكانها الأول، انتماءٌ واضح الملامح للمنظور الرومانسى فى رؤية العالم، فى مكابدات الذوات فى علاقاتها بالآخر وجماعتها، غير أن رومانسية سركون تتجاوز الرومانسية التقليدية التى تُحلم بخلاص قادم وتنتظر نهاية سعيدة وانفراجة لمعاناة الذات فى العالم، إذ تبدو رومانسية سركون بولص موغلة فى تشاؤمها، وفى نظرتها السوداوية للعالم، بناءً على تراكمية تجارب قديمة للألم، وأحزان متجددة، وخسارات متوالية نالتها الذات.
تتجاوز شعرية سركون بولص سذاجة البناء التقليدى للقالب الرومانسى الذى يعتمد على غناء الذات عواطفها الملتهبة فى جمل مباشرة وعبارات تقريرية حاسمة، لتعتمد المَشاهد السينمائية طريقًا لبث دواخل الذات التى تستغنى عن التصريح المباشر بمواجعها باستعادة مشاهد لمواقف دالة على الألم والاغتراب. تسترجع الذاكرة معاناة الأب بتبكيره فى الاستيقاظ قبل الفجر بلقطة احتسائه الشاى وتدخين السيجارة، غير أن حركة الكاميرا تضيق لتلتقط أدق الأشياء وتكبرها كـ»ظفر الإبهام المتشظى كرأس ثومة» علامة على الشقاء. الأب هو الجذر الوجودى للذات فى عالمها، وكأنّ الذات تحمل إرثًا تاريخيًّا ثقيلاً للاغتراب منذ أن ترسّخ فى وعيها «شقاء» الأب فى عالمه.
ثم تتسع الكاميرا لتنقل تحديق الأب فى الجدار، لا النافذة مثلاً. هذا الجدار الذى قد يرمز لانسداد الأفق، بعكس النافذة، حتمية الاصطدام بقدرٍ ما راسخٍ ومصيرٍ ثابت، لا أمل فى تجاوزه، ولا سبيل لمراوغته أو الفكاك منه. والأب «فى حراسة الأيام»، أى فى قيد زمني، رغم ما يُفترض أن يتصف به القيد من مكانية وانحسار وحصار فى بؤرة مكانية، فهل استحالت قيود المكان وجدرانه الاغترابية العائقة، قيودًا زمنية؟ قَدَرًا يبقى مع الأيام طالما أنه مصير يلاحق الذات ويحاصرها فى المكان، كل مكان؟! هل استحال المكان زمنًا ممتدًا للوجع والاغتراب؟
ولكن الذى جعل البيت، عالم الداخل، يمور بقلق الذات، هو خوفها من عالم الخارج، الوسط المجتمعي، المليء بالوحوش والساحق كالطوفان، فوحشية الخارج أفقدت الذات سكينتها وسلامها فى الداخل، البيت.
وفى أشعار سركون بولص الأخير يتبدى الحزن المكلوم ويتعالى صوت الرثاء الأسيف لضياع العراق ووقوعه تحت نير الاحتلال الأمريكى فى 2003:
(قالوا لي.../ إنَّهم هدموا سينما السندباد!/ يا للخسارة./ ومن سيُبحرُ بعد الآن، من سيلتقي/ بشيخ البحر؟/ هدموا تلك الأماسي.../ قمصاننا البيضاء، أصيافُ بغداد/ سبارتاكوس، أحدبُ نوتردام، شمشون ودليلة/ وكيفَ سنحلمُ اليومَ بالسفر، إلي/ أيّةِ جزيرة؟/ هدموا سينما السندباد!/ ثقيلٌ بالماءِ شَعرُ الغريق/ الذى عادَ إلى الحفلة/ بعد أن أطفأوا المصابيح/ وكوَموا الكراسى على الشاطئ المقفر/ وقَيدوا بالسلاسل أمواجَ دجلة).
يُجسِّد التشكيل الكتابى لمفتتح المقطع (قالوا لي...) المسافة الفاصلة بين الحدث (المحكى عنه) والمُتلقي، والمسافة المكانية، كما تجسد الكتابة المنقوطة (...) بعد فعل القول- تجشُّمَ الذات ومحاولاتها استعادة القول والرسالة رُبما لثقل وقعها على الذات، أو لكأنّ الذات، وقد داهمها الذهول لهدم معالم المكان الأول- لا تُصدق ما حدث، فتستغرق بُرهةً زمنية فى محاولة استرجاعه، أو كأنّ الشاعر يودُّ أن يُسمِعنا صوت تنهداته الصامتة وترددات أنينه المكتوم.
يرثى الشاعر مكانه الأول، إذ هدموا مراكزه الثقافية ومعالمه الفكرية، أما المُكوَّن المُركَّب (سينما السندباد) فيبدو ذا تعاضدية تضايفية؛ بمعنى أن ركنى الإضافة تتفاعل كمياؤهما المجازية بما يجعل كلَّ مكوِّن يمتصُّ من الرحيق الدلالى للمكوِّن الآخر، فالسينما كالسندباد تُبحرُ بالخيال فى عوالم بعيدة، والسندباد كالسينما وسيلته الخيال فى ارتياد الواقع، بحثًا عن عالم يوتوبي.
تعى الذات بأن فعل هدم السينما يتخطى كونه إزالة لمعالم طبوغرافية، إلى اعتباره هدمًا لتاريخ ونسفًا لذاكرة وعبثًا بهوية، ولكن ما الخيط الرابط بين الأفلام الثلاثة (سبارتاكوس، أحدبُ نوتردام، شمشون ودليلة) التى تُلحُّ على ذاكرة الشاعر ووعيه مما شاهده فى سينما السندباد؟ سبارتاكوس محرر العبيد الذى خاض بالروح والدم ثورةً لتحريرهم واقفًا فى وجه السلطة الدموية، أحدب نوتردام، ذلك المُحب الذى لم تمنعه عاهته ونُكران الآخرين له من التضحية فى سبيل من أحبّها واستعداده بذل حياته من أجلها، شمشون وقصته مع دليلة تُقدِّم البطل القوى الذى رغم وقوعه فى الخديعة وخيانة من أحبها له، فهو يضحى نفسه فى سبيل بنى شعبه. إذًا، الثلاثة أعمال تُقدِّم نموذج البطل الثورى بمفهومه الرومانسي، المستعد للتضحية فى سبيل من أحب، وبذل ذاته فى سبيل الآخر، وكأنّ الشاعر يتماهى مع هذه النماذج فى استعداده للتضحية فى سبيل من يحب، العراق، وطنه ومكانه الأول.
وتعمل موجتا الاستفهامات المتخللتان النص بفاصل خبري، كنصال منغرسة فى الوعى الشقى (ومن سيُبحرُ بعد الآن، من سيلتقى بشيخ البحر؟)، (وكيفَ سنحلمُ اليومَ بالسفر، إلى أيّةِ جزيرة؟) على تجسيد وعى الهزيمة لدى الذات وشعورها بالقيد وانطفاء وهج الحلم، وهو ما تنقله الصورة الشعرية العنيفة من تمثيل للجحيم الذى آل الواقع إليه، إذ يقوم الشاعر بعمل نقلة موتناجية مستخدمًا مفردات المبنى السينمائى ليُشكِّل منها صورة الواقع المتداعى حيث أُطفئت المصابيح/ طاقة الإنارة فى الظلام، وكومت الكراسى على الشاطئ/ أداة التمركز والاستقرار لمعاينة المشهد، وقيدت أمواج دجلة بالسلاسل، الأمواج هى نبض المُسطَّح المائى الذى يكون كشريان ينثر الحياة فى جسد الوطن، وتقييد الأمواج هو تكبيل لحركة الحياة وسريانها بالوطن.
رابط دائم: