رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

ناصر بين الأرستقراطية والاشتراكية

حاول محمد على باشا تأسيس دولة حديثة فى مصر عن طريق البعثات التعليمية وإعادة تنظيم نظامى الرى والزراعة، وأيضا التصنيع العسكرى المتطور، حتى شهد مؤرخ غربى بحجم توماس لوتسكى بأن ترسانة الإسكندرية البحرية تفوقت على نظيرتها الفرنسية بطولون، نهاية الثلاثينيات من القرن التاسع عشر، فى تصنيع بعض أنواع البوارج البخارية. غير أن عوائد مشروع التحديث العلوى لم تصل إلى قاعدة المجتمع، لأن مشروعه تمحور حول الجيش فلم يخلق طبقة وسطى عريضة، ذات رؤية ثقافية تميزها وأنماط تنظيمية تكفل لها نوعاً من الاستمرارية، خصوصا وقد تأخر نسبيا عمل المصريين فى دولاب الدولة، وتجنيدهم فى الجيش إلى ما بعد تجنيد السودانيين، ناهيك عن صعودهم فى السلك العسكرى إلى المواقع العليا كضباط، لأن الباشا لم يكن يثق كثيرا بالمصريين ولم يعن جوهريا ببعث (الأمة المصرية). وعندما تم تفكيك الجيش انهار المشروع كله، ما أبقى مصر أسيرة لحال (الانقطاع التاريخي)، أى قابلية العودة إلى نقطة الصفر من جديد، دون قدرة على مراكمة الخبرات التاريخية والتحرك بثبات إلى الأمام ولو ببطء، الأمر الذى جعل من عصرى عباس وسعيد حقبة إقطاعية تسبق محمد على بنيويا، رغم أنها تليه زمنيا. استأنف إسماعيل باشا فى ستينيات القرن التاسع عشر مشروع جده لتحديث مصر ولكن بأدوات مختلفة لا تعتمد على المكون العسكرى بل على نظيره المدنى العصري. بنى القاهرة الخديوية كعاصمة حديثة لها طابع معمارى متميز ووسط تجارى جميل، بها مجلس شورى للنواب، ودار للأوبرا تعرض أكثر الفنون الموسيقية حداثة. صارت القاهرة بمثابة باريس الشرق، قلبها أجمل من عواصم أوروبا، والذوق الكلاسيكى هو السائد لدى نخبتها فى الفن والعمارة والأزياء، فتشكل من كل ذلك نمط حياة (أرستقراطي) أضفى عليه دستور 1923م مسحة ليبرالية زادته بريقا ومكنته من صنع صورة رائجة عن مصر كبلد متمدن ومتسامح وديمقراطي. عاش أرباب نمط الحياة هذا فى النصف الأول من القرن العشرين داخل عالم مخملى يشبه ذلك الذى شهدته قصور باريس فى النصف الأول من القرن الثامن عشر، بل تمت استعارة بعض معالمه، حيث كانت الحوارات الثقافية والسجالات الأدبية تدور فى صالونات شهيرة أبرزها وأكثرها جمعا لقمم الفكر والأدب كان للأديبة مى زيادة، أما أكثرها ثراء وفخامة فكان لبعض أميرات الأسرة العلوية، على منوال تلك التى كانت تصدرتها سيدات القصور الباريسية مثل مدام بومبادور أو مدام دى تنسان. مشكلة هذا النمط أنه ظل نخبويا تماما، قصرا على العناصر الأجنبية المرتبطة بالاحتلال البريطانى أو ذوى الأصول المختلطة المرتبطين بالأسرة العلوية خصوصا الألبان والأرمن والشركس. فضلا عن كبار الأعيان فى الحضر والريف، حيث كان التحالف قائما إلى درجة التماهى بين الإقطاع الموروث فى الريف والرأسمالية الوليدة فى المدينة. لعب فيه المكون اليهودى من ذوى الأصول المصرية غير البعيدة دورا وظيفيا كوسيط مالى يتحرك بين الفئات والطبقات، أما نظيره اليونانى فأعطى طابعا ثقافيا وإنسانيا خصوصا لمدينة الإسكندرية. وفى المقابل ظل عموم المصريين فى المدن وأغلبيتهم الساحقة فى الريف، بعيدين عنه، بل حرمت منه أيضا الطبقة الوسطى النحيفة، التى كانت لا تزال تتشكل فى أحضان الجيش الوطنى وبيروقراطية الدولة والقطاع العام. ما يعنى أن الهوة بين نمط حياة الأغلبية الكاسحة من المصريين والنمط الأرستقراطى قد بلغت من العمق حدا يستعصى على التجاوز. وعندما ذهب الموسيقار محمد عبد الوهاب إلى القرية، متجاوزا خط الانقسام، صادحا بأغنيته الشهيرة «محلاها عيشة الفلاح» فى فيلم أبيض وأسود، يأكل فيه من خيراتها فطيرا شهيا وعسلا أبيض مع طيور بلدية طازجة، ثم يتمشى فى حدائق غناء، لم يكن يدرك، أو لعله كان مدركا ومتواطئا، أن تلك الخيرات تعد للزوار الكبار من المدينة، ولكنها محرمة على الفلاح الذى زرعها وجهزها له، وأن تلك الحدائق ليست إلا قصور الإقطاعيين. عندما تمكن ناصر من الحكم كان عليه الاختيار بين الفريقين، ولم يكن لثائر وطنى إلا الانحياز لـ (الناس)، عموم المصريين البسطاء والمقهورين، وأن يمنحهم الأمل فى الارتقاء الاجتماعي. ولذا ألزم نفسه بتخليصهم ليس فقط من الفقر بل من الشعور بالدونية والعجز فى مواجهة أرباب العالم المخملى الذى اعتقد فى ضرورة هدمه. وعلى أنقاضه قدم للمصريين صفقة شاملة: العدالة الاجتماعية مقابل التسلطية السياسية. ودون انتظار لرأيهم فيها شرع لتوه فى تنفيذها بأدوات سلطوية مكنته من نحت طبقة وسطى عريضة، وبناء نمط حياة (اشتراكي)، ليس بالمعنى الأيديولوجى الضيق ولكن بالفهم الإنسانى الرحب، حيث خلق التعليم المجانى والتوظيف الواسع، والسكن المؤجر، استايل حياة مصريا مكن حب الجامعة البرئ بين شاب وفتاة أن يعيش ويثمر زواجا وينتج حياة مستقرة من دون تغريبه خليجية للشاب تنتهى باكتساب الجرثومة السلفية، والعودة كهلا ممرورا يطارده الحنين لحبه الأول، فيسعى إلى كتمانه بأفكار وتصورات سخيفة عن المرأة، يستقيها من السلفيين الأقحاح. لم يكن هذا النمط فائق الجودة كسلفه الأرستقراطي، ولكنه كان بالغ الاتساع خصوصا وأنه ارتبط بدولة فعالة فى إدارة وتنظيم جميع مرافق الحياة. قد يبدو لنا المشروع الناصرى سلطويا فجا، عندما ننظر إليه من داخل لحظتنا التاريخية (المعولمة)، غير أن تلك النظرة الآنية لا تعدو أن تكون ادعاء للحكمة بأثر رجعي، فيما يقتضى النقد التاريخى أن نتذكر أمرين أساسيين: الأول هو أن كل تحول تاريخى هو إجابة عن أسئلة طرحتها الحقبة السابقة عليه، ولأن الحقبة الليبرالية بنظامها البرلمانى قد عجزت عن تقديم صيغة فعالة لإصلاح المجتمع القاعدي، فإن السؤال الذى ألح على ناصر دار حول الفعالية، وكانت إجابته هى السلطوية. والثانى هو أن النموذج الاشتراكى آنذاك كان يتقدم فى العالم كله، فيما نقيضه الرأسمالى موصوم بالرجعية، ما يعنى أن الرجل قد ركب الموجة الصاعدة فى حركة التاريخ آنذاك، الأمر الذى يتفق مع وعى الثائر. ولا يعنى ذلك أن الاجابة لم يكن لها أعراض جانبية. نكمل فى الأسبوع المقبل.

[email protected]
لمزيد من مقالات صلاح سالم

رابط دائم: