بين الدماء المراقة، والأرواح المزهقة، وقتل الإخوة أو حبسهم على الأقل ـ اتقاءً للمنافسة المفترضة، دارت دائمًا أخبار الدولة التركية العثمانية العلية، فتـروى الأخبـار أن السلطـان الغـازى مصطفـى خان الثالث، بادر فور توليه الحكم إلى حبس أخيه عبد الحميد فى القصر ليبقى سجينًا طوال مدة حكمه التى امتدت نيفًا وستة عشر عامًا، اتقاءً لأى منافسة محتملة أو متوهمة، ولا شك أن الأخ السجين حَمَد السجن، فقد أعفاه من الذبح، حتى إذا مات السلطان مصطفـى خان الثالـث فـى 21 يناير 1774 خرج الأخ الحبيس من سجنه ليتولى الحكم تحت اسم السلطان الغازى عبد الحميد خان الأول. ولنا أن نتصور سجينًا استمر سجنه ستة عشر عامًا وثمانية أشهر، ما عليه حاله من جهالة وانغلاق وأمراض نفسية، لا يصلح إزاءها لحكم حارة. ولكنها أحوال دولة الخلافة العلية، أن يخرج الحبيس من سجنه الطويل ليتولى الحكم فى موكب حافل إلى جامع أبى أيوب الأنصارى الذى يتبارك به الخلفاء الأتراك العثمانيون، حيث تقلد سيف السلطان عثمان مؤسس الدولة العثمانية العلية!. هذا وقد بقى السلطان عبد الحميد الأول على دست الحكم نيفًا وخمسة عشر عامًا، إلى أن توفى فى 7 أبريل 1789، وتلاه السلطان سليم خان الثالث وهو ابن السلطان مصطفى الثالث، وبدأت ولايته سنة 1789 حتى عزله من السلطنة فى يونيو 1807م، وباء حكمه، بالموقف المخزى الذى التزمته الدولة العلية العثمانية إزاء الحملة الفرنسية الغاشمة على مصر بقيادة نابليون بونابرت، والتى بدأت فى سنة 1798م، دون أن تحرك دولة الخلافة التركية العثمانية ساكنًا للتصدى لهذه الحملة على مصر الداخلة آنذاك فى رعوية دولة الخلافة العلية العثمانية، والتى أعلن بونابرت لدى دخوله القاهرة، أنه قد أتى حليفًا للباب العالى لتوطيد سلطانه ومحاربة المماليك العصاة.
وقد فضح التاريخ خواء دولة الخلافة التركية العثمانية وتخاذلها عن القيام بواجبها فى حماية مصر التابعة لرعويتها ، ودل التاريخ على أن مقاومة الحملة الفرنسية انعقدت من بدايتها حتى الرحيل عن مصر سنة 1801م، للأبطال المصريين الذين اضطلعوا بهذه المقاومة الباسلة، وسطر الشعب المصرى وزعماؤه آنذاك صفحات من الشرف والفخار حتى اضطر الفرنسيون إلى الرحيل ـ منهزمين ـ عن مصر. ولن تجد لدولة الخلافة العلية أى موقف مناهض للحملة الفرنسية على مصر، بل ستجد العكس، وسترى أن المقاومة المصرية النبيلة لهذا الغزو الذى اجتاحها، إنما كانت مقاومة مصرية صرف، تجلى فيها من الأبطال الفارس الثائر محمد كريم .. البطل حتى الموت، والفدائى المحب لمصر سليمان الحلبى .. شهيد الوطنية، وعمر مكرم.. الزعيم المصرى النبيل، ليستأنف جهاده فى مصر ضد مظالم أمراء المماليك ومظالم الباشا نائب السلطان العثمانى، فلم تكن أحوال مصر بخير، وكانت الأمور نهبًا لهذه الطغمة. ومع ولاية الصدر الأعظم خسرو باشا أغا الانكشارية, منصب نائب السلطان العثمانى، عقب جلاء الحملة الفرنسية 1801م, انتشرت الفوضى والاضطرابات فى مصر، وتعددت سقطات هذا الباشا، فثار عليه الجند وتعاقبت على مصر أحداث جسام، فهرب خسرو باشا إلى المنصورة، وتعقبه طاهر باشا، ولم يكن هذا الأخير سوى رجل أمى لا وزن له، فأزيح من الحكم وقتل بعد 26 يومًا، وتصارع أمراء المماليك كالعادة، وبدا أن الأمور قد استقرت بعد أحداث جسام لعلى باشا الطرابلسى، ولكن سرعان ما تداعت دواهى قتل فيها الطرابلسى، وعاد الألفى بك الكبير إلى رشيد بعد أكثر من سنة قضاها فى بلاد الإنجليز الذين كانوا على صلات به، وأخفق أعوان البرديسى فى العثور على البك الكبير الهارب. وفى تلك الظروف الملتبسة التى كانت تمر بمصر, تفطن محمد على إلى مغزى الحوادث, واستصفى خلاصتها , وطفق يتحرك بذكاء وخبث ودهاء, ساعده على التقدم, أن الشعب والزعماء اكتووا بنار المماليك , وعلموا أنه لا رجاء ولا أمل فيهم , وقدمت لمحمد على مواهبه وسداد خطته وسياسته, ومع مجريات الصراع بين المماليك وبعضهم البعض, وضد الباشا الوالى التركى من قبل السلطان العثمانى, طفق محمد على يتقدم مدعومًا بالشعب وزعمائه, وجعل زعماء الشعب يجتمعون ويتشاورون , ويتشاركون فى تدبير الأمور بعد أن طفح الكيل من المماليك , على أن عمر مكرم كان أكثرهم بروزًا, وأكثر زعماء الشعب شجاعة وإقدامًا , وأقواهم إخلاصًا وإيمانًا .. لم يتحرك لظلم لحق به أو ضرر أصابه كما فعل غيره, وإنما التزمت كل تحركاته بنصرة الحق, وتفطن إلى أن كل هَمّ العثمانيين القضاء على الأمراء, لا لمصر ومصالحها، ولكن ليخلو لهم الميدان, وأن خورشيد باشا الذى اختاروه بعد الأحداث الجسام نائبًا عن السلطان العثمانى, يسير على ذات الوتيرة، ويلتزم التزامًا تامًّا بهذه الخطط, ويسعى بكل السبل لتنفيذها, وحصره عناده فيما يريده السلطان التركى العثمانى بعيدًا عما تفرضه مصالح العباد الذين لا ولاء له تجاههم, فاهتم خورشيد باشا بجباية الأموال بالضرائب والمكوس والافتداءات, فثارت النفوس, واضطربت القاهرة اضطرابًا شديدًا, هنالك تقدم الفارس عمر مكرم ليعبر عن ضمير الشعب المصرى الذى كان روح حركته, فكان أول من دعا إلى الاجتماع فى دار المحكمة الكبرى لإعلان خلع خورشيد باشا واختيار محمد على بدلا منه, وكان أول من دعا إلى محاصرة القلعة بعد أن أبى خورشيد باشا النزول منها متمسكًا بأن يبقى على رقاب الناس رغم أنوفهم. ووقف عمر مكرم يقول فى نهاية حوار طويل مع أحد مستشارى خورشيد باشا: إن أولى الأمر هم العلماء وحملة الشريعة والسلطان العادل, وهذا رجل ظالم, وقد جرت العادة من قديم الزمان أن أهل البلد يعزلون الولاة, وهذا شىء مألوف من زمان, حتى الخليفة والسلطان إذا سار فى الناس بالجور فإنهم يعزلونه ويخلعونه, وقد أفتى العلماء والقاضى بجواز قتالهم ومحاربتهم لأنهم عصاة.
لمزيد من مقالات رجائى عطية رابط دائم: