شغلت الأحداث اليومية البشر دائما.. لقمة العيش والأولاد والعلاقة بالآخرين، أفرادا وجماعات وسلطة. إلى جانب ذلك، كانت هناك أفكار كبرى، اعتقد معها الإنسان أن حياته ذات قيمة وليست مجرد أكل وشرب وتكاثر فى الأولاد والثروات. كان هناك أيضا شخصيات عظيمة، فلاسفة وعلماء ومفكرون، قادرة على إنتاج ابتكارات وأفكار أعظم. الآن يكاد يخلو العالم من الأفكار والشخصيات الكبرى.
كم لانهائى من الأحداث والتصريحات والمعلومات تكاد تذهب بالعقول. الغث منها كثير، ومع ذلك نعيش ونتعامل معها باعتبارها حقائق راسخة ندافع عنها دون مناقشتها أو التساؤل بشأنها. إنه التعصب الذى يهدد العالم، كما قال الفيلسوف البريطانى برتراند راسل (1872- 1970)، والذى كرهه لدرجة أنه وصف نفسه بالمتعصب ضد التعصب.
راسل، عندما سئل فى عيد ميلاده التسعين عما علمته الحياة، اقتبس مصطلحا للعالم الأمريكى كارل ساجان، وهو فن اكتشاف الهراء، أى القدرة على التمييز بين الزيف والحقيقة. يقول راسل: عندما تدرس موضوعا أو تفكر فيه، اسأل نفسك: ما هى الحقائق، وما هى الحقيقة التى تثبت الحقائق؟. لا تدع نفسك تنحرف عنك، إما بسبب أنها ترغب بتصديق شيء ما، أو تعتقد أن لها آثارا اجتماعية مفيدة.
الهراء موجود على مدى التاريخ، لكنه لم يعد بسيطا ولا نتاج أشخاص بل دول ومنظمات. أصبح صناعة تستقطب أفضل العقول وتدر المليارات وتغير مصائر شعوب. أنصاره، حتى لو لم يكونوا هم مخترعيه، ملايين الملايين. وفى المقابل، تنزوى الحقائق، ويتم إجبارها على التنافس مع الهراء الرابح دائما.
لماذا انتصر الهراء؟. يعتقد راسل أن انحسار مساحة التسامح سبب رئيسى.. الحب حكمة والبغض غباء، علينا معرفة كيف نتسامح، وأن نتحمل حقيقة أن البعض يقولون أشياء لا نحبها. التسامح الوسيلة الوحيدة كى نعيش معا.
الهراء ينتصر أيضا لأنه مربح ومفيد، خاصة للسياسيين، ولأنه يدغدغ مشاعر جماهير غفيرة تؤلمها الحقيقة. غالبيتنا غير مستعد لمواجهة واقع مرير يسحق طموحاتنا بمآسيه، لذلك نسبح فى الخيال، ولا نعطى لأنفسنا فسحة للتمييز واكتشاف كم أن حياتنا مليئة بهراء لا نهاية له.
[email protected]لمزيد من مقالات عبدالله عبدالسلام رابط دائم: