رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

وَجهان للثقافة

يبدو أننا لا بد أن نميز بين نوعين من الوعى الثقافى: الوعى الثقافى العام الذى يتحكم فى سلوك الناس وردود أفعالهم التلقائية، والوعى الثقافى الخاص الذى يقترن بقدراتهم الإبداعية والفنية التى تقترن بالقدرات الخاصة على إنتاج الأعمال الإبداعية وتذوقها على السواء. الوعى الأول هو الذى يجعل الثقافة قرينة ما يمكن أن نسميه: أسلوب الحياة، فهو وعى يجاوز الثقافة بمعناها الرفيع والخاص إلى ثقافةٍ بمعناها الاجتماعى الخاص الذى يتحول إلى سلوكٍ وأسلوب حياة. ويبدو أننا حين حددنا الثقافة وأجهزتها ركَّزنا التركيز الأكبر على الثقافة بمعناها الإبداعى، ونسينا المعنى الأنثروبولوجى, ودليل ذلك هو ما نراه حولنا، خصوصًا عندما نقارن ما يحدث فى بلادنا وما يحدث حولنا على الضفة الأخرى من الأبيض المتوسط، فاحترام الطريق وقواعد المرور، والرعاية الطبية، واتباع الوسائل الصحية لوقاية الإنسان لنفسه ولِمَن حوله، تختلف اختلافًا بيِّنًا حسب الثقافة ونوعية التعليم والمكانة الاجتماعية التى تحدد نوع الثقافة المتاحة لهذا المواطن أو ذاك. وأضف إلى ذلك نوعية الثقافة العامة التى تتعلق بالتعامل مع ممتلكات الدولة سواء أكانت فى المتنزهات أو فى النوادى الرياضية أو حتى فى القطارات والمواصلات، فما يمكن أن نلمحه من تخريبٍ مُتعمَّد - أحيانًا- لأدوات الدولة وأجهزتها فى غيبة الرقابة - يُنبئ عن حالة من الوعى التى يمكن وصفها بأنها ليست حضارية ولا حتى تنطوى على إدراك وطنى بأن هذه الأدوات كلها هى ملك للمواطن فى نهاية الأمر ما ظلت من ممتلكات الدولة.

والسؤال الذى يلح على ذهنى منذ أن واجهنا أزمة كورونا: هل استطعنا فعلًا أن نرتقى بالثقافة العامة للمواطن، ونرتفع بها إلى المستوى الذى يحفظ على المواطن المصرى حياته وصحته وعافية أطفاله، أم أن هذا المواطن ينقصه الكثير من متطلبات الوعى الثقافى العام، فيحرص على حياته أولًا، ومن ثم على صحته وصحة وسلامة من حوله ثانيًا؟ لقد أرتنا الاستجابات المؤسفة فى مواجهة جائحة كورونا أشكالًا من السلوك تدل على تدنِّى الوعى الثقافى العام، وعدم وصوله إلى الدرجة المأمولة التى تحمى صحة المواطن وصحة من حوله على السواء. ولولا ذلك ما تدخلت الدولة بألوان من العقاب الرادع كى تفرض على هذا المواطن حماية نفسه وحماية مَن حوله على السواء.

ولكن السؤال الذى لا بد أن يفرض نفسه فى هذا السياق هو: من أين تأتى الثقافة العامة؟ أنها تأتى من وسائل الإعلام المختلفة، ومن التربية الاجتماعية الخاصة داخل الأسرة، والتربية العامة خارج الأسرة، سواء فى المنتديات وأماكن التجمعات كالمدارس والمناسبات الاجتماعية وغيرها. إن انعدام الوعى الثقافى السليم والراقى سمة مميزة للمواطن المصرى الذى ينحدر إلى أنواع ضارة من السلوك التى تؤذيه وتؤذى مَن حوله على السواء. ولذلك كان لا بد من أن يفكر فى سياسات ثقافية تهتم بالوعى الثقافى العام وترتقى بذوق المواطنين من خلال أشياء كانت موجودة وأشياء لا بد أن توجد وأن تُستعاد، بل أن تضاف إلى ترسانة الأدوات الثقافية التى يرتقى بها وعى المواطن. وفى هذه الحالة يأتى الدور الأساسى لأجهزة الإعلام، ويبرز الدور الإكمالى الذى تؤديه أشكال الحضور الاجتماعى للمعاهد والمدارس فى المجتمع. أضف إلى ذلك السلوك الفردى لمن هم فى مرتبة قادة الرأى من كُتّاب الصحافة أو المتحدثين فى أجهزة الأعلام والتليفزيون.

أذكر أننى فى فترة الصبا كنتُ أشاهد حلقات من مسلسل أمريكى بعنوان: منزل صغير فى البرارى، وكانت كل حلقة عبارة عن درس فى مغزى أخلاقى نبيل أو فى قيمة إنسانية رفيعة. وأشهد أننى تعلمتُ من هذه الحلقات فى صغرى كيف ألتزم بالقيم الإنسانية الرفيعة فى سلوكى وحياتى. وأتصور أننا لو أطلقنا نوعًا من هذه الحلقات التليفزيونية وأتحناها للمشاهدين، لنقلنا إليهم بشكلٍ غير مباشر، عن طريق سِحر الفن، الكثير من القيم التى لا بد أن يلتزموا بها فى حياتهم، وأن يدافعوا عنها فى حضورهم. ومؤكد أيضًا أن تعاليم الأديان تحتوى على الكثير من هذه القيم الإنسانية، فتصوروا مثلًا لو حوَّلنا هذه التعاليم إلى مواقف درامية وأحداث سينمائية تشترك فى إنتاجها وزارات الإعلام والتربية والتعليم والصحة والشباب. أظن أن المكسب والعائد سيكون كبيرًا جدًّا يضاف إلى الرصيد الثقافى للدولة من حيث الإيجاب والارتفاع على درجات سلم القيمة بمعناها الاجتماعى أو الأخلاقى أو الحضارى أو الإنسانى... إلخ.

إن الحاجة ماسة إلى أن نتثقف بهذا المعنى العام، وإلى أن نؤصِّل ونغرس فى كل مواطن ومواطنة، صغيرًا كان أو كبيرًا مبادئ وأشكال السلوك الخاص بالوعى الراقى الذى يعى قيمة ما حوله، ويسهم فى الحفاظ على هذه القيمة، ويقوم هو بنشر هذه القيمة بين الآخرين، فيعلِّمهم ما يتعلمه هو من أجهزة الإعلام والتعليم والشباب التى يتصل بها ويتلقّاها. والحق أن هذا النوع من تطوير القيم العامة لأسلوب الحياة التى أتحدثُ عنها والتى أجعلها مرادفة للثقافة بمعناها الواسع، إنما تحتاج من الدولة إلى نوعٍ آخر من التخطيط ليس موجودًا للأسف. وأعنى التخطيط الكُلى والشامل الذى يجمع بين وزارات متعددة لأداء وظيفة واحدة.

أن يعرف المواطن البسيط أن شكل الوردة فى الحديقة كشكل التمثال فى المتحف أو اللوحة فى المرسم، هى أشياء قيمة ونفيسة ينبغى أن يجعل من نفسه حارسًا عليها وحاميًا لها وناقلًا لرسالتها المُضمرة والمباشرة. ولن يتحقق ذلك إلا بتعاونٍ وثيقٍ بين وزارات الثقافة والتعليم قبل الجامعى والعالى والشباب والرياضة والشئون الاجتماعية والأوقاف، كما أنه لن يتحقق إلا إذا وضعنا الارتقاء بالثقافة العامة هدفًا أساسيًّا للدولة، وجعلنا مهمة تحقيق هذا الهدف منوطة بمجموعة وزارية تتكون من الوزارات التى تتصل بالشأن الثقافى العام، وترى أن من مهامها الرئيسية العمل على ارتقاء الذوق العام، وارتفاع الحس الحضارى، وازدهار الأفق الإنسانى المفتوح الذى يتقبل الجمال فى كل مظاهره فيقدره ويحافظ على أشكاله حيثما وُجِد. هل يمكن أن يتحقق ذلك وتكون لدينا مجموعة وزارية للتثقيف؟ هذا ما أحلم به وأرجوه من الدولة المصرية بوصفى مواطنًا فيها.


لمزيد من مقالات جابر عصفور

رابط دائم: