نُظمَت بمناسبة الذكرى الخمسين لرحيل عبد الناصر احتفاليتان فى يومين متتاليين، عُقِدت الأولى يوم الرحيل نفسه فى المجلس الأعلى للثقافة تحت رعاية الوزيرة والفنانة القديرة الدكتورة إيناس عبد الدايم التى ألقى كلمة بالنيابة عنها الدكتور هشام عزمى الأمين العام للمجلس فأضاف للتحليل المنصف لتجربة عبد الناصر لمحة شخصية مؤثرة حيث تزامنت ساعة الرحيل مع استعداد أسرة مصرية للاحتفال بعيد ميلاد طفلها لتتغير الأولويات وتنتقل الأسرة لاحقاً إلى مكان آخر تتابع فيه الحدث الجلل، ولنكتشف فى نهاية الكلمة أن هذا الطفل هو المتحدث نفسه، كما ألقى الأستاذ محمد فايق ساعد عبد الناصر الأيمن فى تنفيذ مشروعه التحررى فى إفريقيا كلمة ضافية عن الرجل وتجربته، وكذلك فعل الدكتور جمال زهران منسق الندوة، ثم عقدت ندوة شاملة عن تجربة عبد الناصر شرفت فى جلستها الأولى عن المشروع العربى لعبد الناصر بالمشاركة مع الأستاذين الجليلين عاصم الدسوقى وعلى الدين هلال، كما شاركت فى الاحتفالية الثانية التى نظمتها مكتبة الإسكندرية بمبادرة من مديرها الاستثنائى الدكتور مصطفى الفقى الذى حالت وعكة صحية طارئة دون حضوره فألقت كلمة الافتتاح مستشارته القديرة السفيرة فاطمة الزهراء عتمان، وقدمت فقرات الاحتفالية الدكتورة مى مجيب المديرة المتميزة لمركز الدراسات الاستراتيجية بالمكتبة الذى نظم الندوة، وحضر الاحتفالية جمال خالد عبد الناصر ممثلاً لأسرة الزعيم فألقى كلمة تشى بوعيه الفائق بالتجربة ومكانتها، وكان طبيعياً أن تدور فى الاحتفاليتين حوارات ثرية عن التجربة أُركز هنا على بعضها.
ولعل القضية الأولى هى الاستمرار اللافت للجدل حول التجربة بين خصوم لا يرون فيها أى خير ويعتبرونها مصدراً لكل الشرور، وأنصار يحسبونها الكمال بعينه، وهى ظاهرة فريدة ليس لها مثيل فى ثورات أخرى، ولنتخيل مثلاً أن أحداً فى الصين فى عام2000 قد نسب أى مصاعب تواجهها بلاده للنظام الذى أطاحت به الثورة الشيوعية في1949، وقد حاول الدكتور محمد عفيفى أستاذ التاريخ القدير أن يوجد حلاً للمعضلة من خلال ما سماه الموضوعية النسبية، وهى التى تمكننا من إعطاء أى تجربة حقها ووصفها بالثراء حتى وإن تضمنت بعض السلبيات، وقد كان استشهاده برائعة نجيب محفوظ أ«مام العرش» جميلاً، فقد حوكم فيها عبد الناصر أمام محكمة التاريخ وطرح خصومه ما يرونه من سلبيات لكن الحكم الصادر بحقه فى النهاية وضعه مع الخالدين، كما استشهد بما كتبه غالى شكرى بعد وفاة عبد الناصر عن اختلافه معه لكنه بكاه لما سوف يأتى من بعده، وربما تنبع من هذا الاعتبار أهمية الموضوع الذى شارك به الكاتب الكبير الأستاذ أحمد الجمال وهو عبد الناصر والنقد الذاتي، وقد ذهب إلى أن نقد عبد الناصر لتجربته انقسم إلى مرحلتين، كانت أولاهما من بداية الثورة حتى هزيمة1967 وركز فيها على الإخفاق فى تعميق الثورة حتى عاد الإقطاع فى بعض الحالات، والثانية بعد الهزيمة وكان نقده فيها للنظام نفسه كما يظهر من بيان 30مارس ومن حديثه عن مراكز القوى والفساد، وعلق الجمال على النقد الشائع الذى يوجه لتجربة عبد الناصر لغياب الديمقراطية بأن عبد الناصر لم يزعم يوماً أنه كان ديمقراطياً ليبرالياً وأنه كان فى ذلك ابن عصره، إذ لم تكن الديمقراطية الليبرالية آنذاك هى النموذج المُتبَع فى الدول حديثة الاستقلال، وأضفتُ لاحقاً أن نهجه فى تحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية قد حرك العملية التاريخية الضرورية للوصول إلى ديمقراطية حقيقية، فأعرق الديمقراطيات لم تتبلور إلا بعد أن تحقق نوع من التوازن الطبقي، وهو الاتجاه الذى سارت فيه تجربة عبد الناصر بقرارات الإصلاح الزراعى وغيرها من القرارات ذات المحتوى الاجتماعى والخطوات المتسارعة فى مجال التصنيع وكلها قرارات قوت طبقتى الفلاحين والعمال والطبقة المتوسطة.
أما الناقد الفنى الكبير الأستاذ طارق الشناوى فقد قدم مداخلة بالغة الأهمية عن «عبد الناصر والقوة الناعمة: لماذا انحازت إلى التجربة الناصرية؟» وترجع أهميتها إلى المفارقة الكامنة فى الحديث عن نظام عبد الناصر باعتباره نظاماً قامعاً للحريات من ناحية والتسليم بأن الثقافة والفنون قد ازدهرت فى عهده من ناحية أخرى، ومع أن هناك من يستسهل تفسير هذه الظاهرة بأن جذورها ترجع إلى الحقبة الملكية، إلا أن هذه المقولة لا تصلح لتفسير الانحياز الحميمى لعبد الناصر وبالذات فى الأغنيات والأناشيد الوطنية، وقد فسر الأستاذ طارق هذا بالحس الفنى الصادق لعبد الناصر وهو ما جعله مثلاً لا يتوقف عند سجل كبار الفنانين كأم كلثوم وعبد الوهاب فى الحقبة الملكية ويلغى من فوره قرارات مقاطعتهما فى الإذاعة المصرية، بل إنه تسامح بسهولة مع عرض أفلام تضمنت نقداً للاستبداد عامة كفيلم «شئ من الخوف» أو لنظامه خاصة كفيلم ميرامار، وقد سعدت بالتوضيح الذى قدمه الأستاذ طارق بخصوص الفنان المبدع محمد فوزى الذى تُكال بشأنه الاتهامات لعبد الناصر بأنه السبب فى مرضه ووفاته لأنه أمم مصنعه الرائد للاسطوانات، بينما لم تطل قراراته شركة صوت الفن التى كان عبد الوهاب وعبد الحليم يمتلكانها، والسبب وفقاً لمتهميه أنه لم يغن لعبد الناصر، وقد نفى الأستاذ طارق هذا الاتهام بدليل أغنية كان وإن, التى تغنت بعبد الناصر وأن فوزى نافس عبد الوهاب على تلحين نشيد «ناصر كلنا بنحبك» وغنائه، أما تأميم شركته فقد أرجعه إلى أنها مثلت آنذاك مشروعاً اقتصادياً كبيراً تنطبق عليه معايير التأميم على عكس صوت الفن التى كانت مجرد شركة لتعبئة الاسطوانات.
لمزيد من مقالات ◀ د. أحمد يوسف أحمد رابط دائم: