لم تكد تنتهى حرب أكتوبر 73، التى يطلق عليها الغرب حرب عيد الغفران، أو يوم كيبور، نسبة للعيد الدينى اليهودي، الذى شنت فيه مصر حربها المجيدة،حتىانطلقت الأقلام، من كل صوب وحدب، تكتب عن هذه الحرب، وتحلل نتائجها، التى جاءت عكس كل التوقعات الاستراتيجية، فشهد عام 74 العديد من المقالات الصحفية، والدراسات التحليلية، وحتى الكتب التى تناولت سيرة هذه الحرب، كونها أحدث حروب العصر الحديث، التى دارت بين جيشين من أقوى الجيوش فى العالم, الجيش المصرى والجيش الإسرائيلي، المزود كل منهما بأحدث الأسلحة والمعدات المتطورة، التى لم تستخدم فى الحروب السابقة.
كان من أهم الإصدارات التى تناولت تحليل هذه الحرب هو تقرير Military Balance, أو التوازن العسكري، الذى يصدر، سنوياً،عن المعهد الدولى للدراسات الاستراتيجية، فى لندن،(International (Institute for Strategic Studies IISSوهو واحد من أهم الإصدارات العالمية، إن لم يكن أهمها على الإطلاق، مما يعتمد عليها كل المفكرين الاستراتيجيين، والمحللين العسكريين، فى العالم. كان تقريرعام 1973، قد صدر فى يناير من ذلك العام، أى قبل الحرب، ليحدد حجم القوات الإسرائيلية، والقوات المصرية والسورية والأردنية والعراقية، مجتمعة، معلقاً بأنه مجرد تفكير العرب فى القيام بأى عمليات عسكرية ضد إسرائيل، لاستعادة الأرض التى فقدوها عام 67، فمصيرهم الحتمى هو الهزيمة، نظراً للتفوق الكمى والنوعى للقوات الإسرائيلية، مقارنة بحجم القوات العربية. كان ذلك خلاصة ما قدمه التقرير فى نهاية الفصل المخصص لتحليل القوات العسكرية فى منطقة الشرق الأوسط.
ومرت الأيام، وهل شهر أكتوبر 73، فعبرت القوات المصرية قناة السويس، ودمرت خط بارليف، أقوى الخطوط الدفاعية عبر التاريخ العسكري، بعد خط ماجينو الذى بناه الفرنسيون أمام الجيش الألماني، ووصلوا لعمق 15 كم شرق قناة السويس، وهزموا العدو الإسرائيلي، واستعادوا الأرض، فيما بدا للعالم وكأنه معجزة عسكرية. ولما حان موعد إصدار العدد الجديد، فى بداية عام 74، وجد مركز الدراسات الاستراتيجية نفسه فى حرج دولى أمام خطأ جميع تقديراته المذكورة فى تقريره السنوى لعام 73، مما دفعه لتأجيل الإصدار الجديد، عن عام 74، لمدة 6 أشهر، لمراجعة أوجه القصور فى تحليله السابق، التى أدت لخطأ النتائج.
وصدر التقرير الجديد فى الربع الثالث من عام 74، ليشهد بأن المصريين غيروا المفاهيم العسكرية، وأهمها تلك المرتبطة بمقارنة القوات، فبعدما كان أساس حساب التفوق العسكرى للدولة، يقوم على أعداد قواتها، وأعداد أسلحتها ومعداتها، من الدبابات والمدافع والطائرات، وغيرها، لم يعد من الممكن اعتماد ذات المنهجية، بعد تفوق القوات المصرية فى حرب 73، والتى فرضوا بها عناصر جديدة لتقييم القوى العسكرية، كان من الضرورة اعتمادها كعناصر حاكمة فى تحديد موازين القوى؛ أولها الروح المعنوية، إذ كانت الروح المعنوية للمصريين تفوق الروح المعنوية للإسرائيليين، بعد انتظار دام ست سنوات منذ يونيو 67.
كما أظهرت هذه الحرب عاملاً جديداً، وهو الرغبة فى القتال، فقد كان هدف المصريين هو استعادة الأرض التى فقدوها فى 67، بينما هدف الإسرائيليين للاحتفاظ بأرض اكتسبوها فى الحرب السابقة، يعلمون أنها ليست أرضهم. وأوضحت الحرب، كذلك، أن المصريين لم يهتموا بالتفوق العددى لأسلحة قوات العدو الإسرائيلي، بل كان ذلك حافزاً لابتكار أساليب جديدة للتصدى لها، مثل المدافع المائية للتغلب على الساتر الترابى لخط بارليف، وحائط الصواريخ للتغلب على قوة سلاح الجو الإسرائيلي، بتقييد قدرتها، وهو ما حدث مع بداية عبور القوات المصرية لقناة السويس، فتغيرت، بهذا، مفاهيم الدفاع الجوى فى الفكر العسكرى العالمي، إذ لم يعدالتفوق العددى للطائرات، عاملاً أساسياً فى حساب القوى، بعد نجاح قواتنا فى تحييد القوات الجوية المعادية بفكرة حائط الصواريخ.
كما تمكنت قواتنا المصرية من تسجيل نجاح آخر باسمها، بعد الهجوم على واجهة دفاعات خط بارليف الإسرائيلية بالكامل، باتباع أسلوب الدفاع المتحرك Mobile Defense، فى مفاجأة غير متوقعة للإسرائيليين، حيث يعتمد نظام الدفاع المتحرك على اختراق من اتجاه واحد، وهو ما كان من شأنه تمكين الاحتياطى الإسرائيلى من تدمير قواتنا التى نجحت فى الاختراق، إلا أن اختراق القوات المصرية للدفاعات الإسرائيلية تم على المواجهة بالكامل، مما أربك حسابات القوات الإسرائيلية، ووضعها فى مأزق لعدم القدرة على تحديد اتجاه دفع الاحتياطي. فاتضح للجميع أن نظام الدفاع المتحرك، الذى تتبناه العقيدة العسكرية الغربية، المعمول به بكل دول حلف الناتو، لم يعد صالحاً بعد هجوم المصريين فى حرب 73، فبدأت وزارة الدفاع الأمريكية فى تعديل فكر الدفاع المتحرك فى العقيدة الغربية، لتخرج للعالم، فى عام 76، بالشكل المتطور للدفاع المتحرك، مطلقة عليه اسم Active Defense، أى الدفاع النشط، وهو الصورة المطورة للدفاع المتحرك، لتتبعه كل القوات المقاتلة فى حلف شمال الاطلنطي، والذى يقسم الاحتياطيات فى العمق إلى عدة احتياطيات لمواجهة الاختراقات المتعددة على طول المواجهة.
ولو ساقتك الظروف لحضور محاضرة عسكرية عن شكل الدفاع الجديد، فتأكد أن محاضرك سيبدؤها بأن تطوير الدفاع المتحرك، إلى الدفاع النشط، اعتمدعلى خبرة قتال حرب 73، أو حرب عيد الغفران، بعدما نجح المصريون فى إبطال فاعلية الدفاع المتحرك... وهكذا نرى أن حرب أكتوبر قد غيرت العديد من المفاهيم بفضل شجاعة الجندى والضابط المصري، الذين هم خير أجناد الأرض.
لمزيد من مقالات ◀ د. سمير فرج رابط دائم: