رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

مصر أم الدنيا (4)

لم تكن عظمة المصريين القدماء تتمثل فقط فى حضارة الحجر أو إنجازات العلماء والتقدم المادي، ولكن كانت لهم حضارة أخرى هى حضارة الروح.ففى لوحة لتحتمس الرابع مكتوب فيها: فى بداية الزمن تجلت فى هذا المكان قوة إلهية ثم انتقلت لتشمل العالم كله... هنا نزلت الأرواح العظيمة المقدسة، وهنا سكنت وعاشت.

لقد أدرك أجدادنا أن عالم الروح لا ينفصل عن عالم المادة، وأن روح الإله تسكن كل شيء وتحرك كل شيء فالوجود كله مفعم بالحضور الإلهي، لذلك قدسوا وجوده فى أعماله المصنوعة بيده. فكان من نتاج هذه الفكرة تقديس الرموز وليس عبادتها، فقد كانوا يقدسون بصمات الإله فى كل شيء. وإذ لم يستطيعوا أن يروا الإله الخفى الذى أعطوا له أسماء من ضمنها أمون أى الإله الخفى فقد قدسوا صفاته والحالة التى فى خليقته. وهذا ما أطلقوا عليه النترو وهو تجليات صفات الإله الواحد فى رموز مختلفة، فكانت هذه الرموز لقوى اللـه مقدسة فى قوته. فالصقر حور يعنى العالى أو السامي، والعجل أبيس رمز للخصوبة واعتبروه فيه روح الإله بتاح، وكان يرسم الشمس بين قرنيه لتجسيد فكرة الوجود المقدس للإله فهو رمز ولم يكن يعبد كحيوان، بدليل أنهم كانوا يذبحونه ويأكلون لحمه دون أن يشعروا بأنه فى ذاته الإله الذى يعبد، ولم نجد تقديسا للحيوانات أو الطيور ولكن كان التقديس لقوة اللـه وكانت هذه هى رموزا لهذه القوة. ولأنهم استقبلوا أعمال اللـه الكثيرة فكانت معها كثرة الرموز المقدسة.

ولكن مع هذا كانوا يضعون الصفات العليا للإله أعلى درجات وصور هذه الرموز فهو آمون الإله الخفي، ورع الإله الظاهر بقوته الكونية ويرمز له بالشمس المتوهجة فى الظهيرة، ثم شمس الغروب ترمز إلى أتوم، وحابى إله النيل الذى منه تكون أسباب الحياة.

ويقول عالم الأنثروبولوجى كليفورد جيرتز: إن البشر مخلوقات تصنع رموزاً وتعطى مفاهيم لها وتبحث عن المعنى. فقد كانت النترو عند أجدادنا رموزا للإله الواحد وليس تعددا للآلهة ولا عبادة وثنية. فقد وجدت صلاة لتحوت العظيم منذ 4500 سنة قبل الميلاد يقول فيها: الإله الواحد الذى لا يشوبه نقص، الخالد أبداً، الحق، المطلق الأسمى، هو جماع الأفكار التى لا تدركها الحواس ولا تدركه أى معرفة، هو أعظم من أن يطلق عليه اسم، هو الخفى المتجلى فى كل شيء، لا جسد له ولكنه فى كل شيء، لا اسم له ولكنه فى جميع الأسماء، هو الجوهر الكامن فى كل شيء، الواحد الذى ليس كمثله شيء.

ترى عزيزى القارئ بعد هذه الأفكار لأحد علماء المصريين القدماء الذى اكتشف الزمن والكواكب والكتابة يمكن أن يكون يعبد وثنا أو يعبد حيوانات؟ ولكن من يقول هذا هو من ينظر بنظرة سطحية للفكر الإلهى لهؤلاء العظماء. ولكن أثرت شاعرية واتساع أفق المصرى القديم فى تقريب الأمور اللاهوتية غير المدركة إلى صور ورموز ورسومات محدودة، للتعبير عن أمور غير مدركة وغير محدودة لذلك كانت الكثرة فى الرموز. ولكن لكل رمز عمق فكرى وعمق معنى، فعلامة أونخ تمثل الحياة الأبدية، فالخطان المتعارضان هما قوة الإله وهذا هو الخط الرأسى الممنوح لكل الأرض وهذا هو الخط العرضى وفوقه دائرة تمثل الأبدية وقوة الإله غير المدرك المتمثلة فى الشمس. كما كانت عين حورس تمثل الكمال الأعلى والإله الذى يعتنى ويشفى ويحمى الجميع. وبالمناسبة اتخذ الماسونيون عين حورس إحدى رموزهم الثابتة علامة على العناية الإلهية، كما اتخذوا الأهرامات علامة على القوى الخفية، وبالطبع اتخاذ هذه الرموز من أجدادنا لا يعنى أن هناك أى ارتباط بين الأجداد والماسونية.

وبالرغم من تنوع الرموز للإله المعبود لكل إقليم فى مصر واختلاف صور الإله والأفكار والأساطير المصاغة حوله إنما ليتعلم الشعب قوة الإله وخصوصية علاقته بهذا الإقليم. ولكن كان العمق الداخلى للإيمان هو الإله الواحد كما يقول جامبليكس من فلاسفة الأفلاطونية المحدثة فى القرن الثالث: إن المصريين كانوا يعبدون إلها واحدا هو سيد العالم، وخالقا فوق جميع العناصر المادية، فهو فى إيمانهم غير مادى ولا متجسد ولا مخلوق هو الكل فى الكل. ويقول السير بيتر رينو: إن أصوات التسبيح للإله الواحد قد ارتفعت فى ربوع وادى النيل منذ أكثر من خمسة آلاف عام، وإن الاعتقاد بوحدانية اللـه وصفاته القدسية باعتباره الخالق السرمدى ومصدرا للناموس الأبدى إنما يبدو كجوهرة متألقة بين أكداس المعتقدات الفرعونية التى تراكمت خلال العصور القديمة.

ويقول بروكشن: المصريين كانوا يؤمنون باللـه الواحد الذى خلق كل شيء، ويقول بونكر: إن الإله الأعظم للمصريين لم يكن فى الأصل هو إله الشمس رع، ولم يكن هو أزوريس وإنما كان سيد الزمان الأزلي.

وبالرغم من اختلاف الأسماء والصور المحسوسة ولكن كان المصريون يدركون أن هذا كله شكل ومظهر محسوس ومدرك لإله خفى غير مدرك ولا هو محسوس، لذلك نجد للإله الواحد أسماء متعددة هى صور وأوجه لرؤية الفكر اللاهوتى المصرى فنجد هذا فى الصلوات والأناشيد. فيقولون لأوزوريس: الحمد لك يا أوزوريس يا إله الأبدية ورب الأرباب، يا صاحب الأسماء المتعددة، والعرش الأزلي، الواحد القوى الذى تمجده السماء والأرض.

وفى نشيد لأمون يقولون نفس الصفات: الحمد لك يا آمون رع الموجود فى كل مكان، الكائن فى كل شيء، الوحيد فى طبيعته، إله الآلهة ورب الأرباب، ورئيس رؤساء الأرض، الواحد الذى لا شريك له، خالق كل الأشياء. ونفس الصفات يقولونها لأتون: يا أتون الحى أنت الموجود منذ الأزل، أيها الإله الواحد الذى لا شريك له، الذى خلق نفسه بنفسه، ثم خلق الناس وكل ما على الأرض. أنت سيد الجميع ورب الأرباب. هذه هى مصر الأرض المقدسة التى أشرق الإله بنوره فيها على القلوب والعقول قبل الأرض لأنها مصر أم الدنيا.


لمزيد من مقالات القمص أنجيلوس جرجس

رابط دائم: