فى 1976، احتفلت مصر بالعيد الثالث لنصر أكتوبر المجيد، واحتفلت أيضا بالدورة الأولى لـ«عيد الفن» المصري. فتحقق ما قاله الكاتب الكبير رشاد رشدي، رئيس أكاديمية الفنون وقتها، فى تقديمه للحفل الذى شهده الرئيس الأسبق محمد أنور السادات، وأقيم يوم الثامن من أكتوبر 1976 فى «قاعة سيد درويش» بالأكاديمية. يومها، أكد رشاد رشدى العلاقة الخاصة بين «الفن» و«الحرب» المستهدفة لنصرة الحق. وأوضح أن كليهما يحققان تجاوزا للواقع ومحاولة لإعادة تشكيله. ومن أجل تشكيل الواقع جاء العيد الأول للفن مصاحبا لذكرى النصر وعبور الهزيمة.
وبخلاف التكريم المستحق لكوكبة من نجوم مصر، والتقدير الواجب لنجوم انحسرت عنهم الأضواء مثل الفنانة الكبيرة زينات صدقي، والنجمة فاطمة رشدي، جاء «عيد الفن 76» بعدد من القرارات التى كان يفترض أن تنظم القطاع الفنى .
إعفاء الفنانين من الاحالة للمعاش
صباح يوم السادس من أكتوبر 1976، خرج الأهرام مبشرا بالأحوال الجديدة للفن والفنانين اعتبارا من العيد الأول لهم، فكان العنوان التالى بالصفحة الأخيرة: «اعفاء فنانى مصر من الاحالة إلى المعاش: من بعد غد». وجاءت البشرة بين سطور الخبر: «وسوف يعلن د. رشدى بدء تنفيذ فى هذا الحفل بدء تنفيذ المطلب الرئيسى الذى أوكل إلى الأكاديمية تنفيذه وهو توفير حياة كريمة من أجل الفنان والأديب المصرى لا تقل عن حياة أمثالهم فى بلاد العالم المتحضر فى أوروبا وأمريكا.. ثم يعلن عن مشروع قرار جمهورى بإعفاء الفنانين من الإحالة إلى المعاش إلا اذا طلبوا ذلك».
ويوم التاسع من أكتوبر من العام نفسه، خرجت «الأهرام» بتغطية كبيرة للحدث بدأت من صدر الصفحة الأولى بعنوان : «السادات يقول فى عيد الفن والأدب والفكر: الانسان المصرى حارب كل صور الشر من قهر وظلم وعدوان / لا فن بدون حرية ولا حرية بدون الفن الذى يجب أن ينتصر على قوى الشر». وأشارت التغطية إلى الحضور الكبير الذى شهد الحفل الفارق، فتقدمت الموجودين السيدة قرينة الرئيس الأسبق، جيهان السادات، والسيد ممدوح سالم رئيس الوزراء، والدكتور جمال العطيفي، وزير الثقافة والإعلام.
وبدأ الحفل بكلمة للدكتور رشاد رشدي، ثم كلمة لوزير الثقافة والإعلام، تبعتها كلمة للصحفى والأديب الكبير فكرى أباظة، والذى نال هو والفنان محمد سيف وانلى شهادة الدكتوراه الفخرية تقديرا لمشوارهما الإبداعى المميز. وجاءت كلمة فكرى أباظة مطعمة بأسلوبه الساخر المعروف، ومن ضمن ما قال: « إن الحكم فن.. وزعامة الأمة فن.. والسياسة فن..» قبل أن يتطرق بجدية حازمة إلى عدد من القضايا الساخنة وقتها، ومنها الخلاف العربى مع مصر، مطالبا الرئيس السادات بأن لا يتسع صدره للزعيمين الليبى معمر القذافى والسورى حافظ الأسد.
قرارات من أجل «مجتمع فاضل»
وفى كلمته، وحسب تغطية الأهرام فى التاسع من أكتوبر، فإن السادات أكد تفرد الحضارة المصرية وعلاقتها الوثيقة بالإبداع والفن، قائلا: «من آلاف السنين عاشت مصر ومازالت تعيش لأنها تؤمن بأن الخير هدف فى نفسه وكذلك الحق وكذلك الجمال.. عكس المجتمعات العادية التى نرى أن الغاية تبرر الوسيلة والتى تقيم الإنسان بقدر ما يملك من مال أو سلطان، ولكن هذه قوى خارجية يمكن أن تزول تحت أى ظرف وفى أى وقت.. أما القوة الحقيقة التى لا يمكن أن تزول ولا يمكن أن يسلبها منا أحد فهى القوة الداخلية إحساسنا بأن قيمنا انما نستمدها من ايماننا بقيم إنسانية عليا ولذلك فنحن لسنا فى حاجة إلى شيء لأننا عن طريق هذا الايمان وعن طريق تلك القوة نملك كل شيء..»
وواصل الرئيس السادات خطابه، قائلا: « فلم يكن غريبا أن يصبح من أهم ملامح الشخصية المصرية اعتزاز المصرى بنفسه وإحساسه بالتفوق الداخلى حتى فى أحلك الأوقات فهو الذى أعطى للبشرية كيانها الحضارى وهو المعلم الأول الذى لولاه ما استطاع الإنسان فيما بعد أن يكتسب خبرات فى شتى مجالات الفنون والحكمة والعلوم.. إن الفن هو الطاقة الكامنة فى أى مجتمع فإذا انطلقت هذه الطاقة انطلق المجتمع والعكس صحيح وقديما قالوا «إذا أردت أن تخلق مجتمعا فاضلا فلابد ان تعطيه فنا جميلا».
وانتقل السادات بعد ذلك للرابط الذى تحقق فى الحالة المصرية ما بين الإصرار لتحقيق العدالة، والإبداع الفنى الملهم، فقال: «لذلك لم يكن من باب المصادفة أن اخترت الثامن من أكتوبر من كل عام ليكون عيدا للفن. ففى السادس من أكتوبر تم العبور..عبرنا من الهزيمة الى الانتصار ومن الظلام الى النور ومن اليأس إلى الأمل ومن أفاق محدودة ومغلقة إلى آفاق رحبة مفتوحة كالسماء. إن نصر أكتوبر ليس حدثا وانتهي.. انه طاقة خلاقة تتوالد مع الزمن وما ترتب عليه من آثار إلى الآن لن يقارن بما سوف يحققه هذا النصر غدا وبعد غد أو على مر الزمان. ومن هنا كان احتفالنا بالفن مواكبا لاحتفالنا بالنصر.. فكما انتصرت قواتنا الباسلة فى أكتوبر المجيد، كذلك يجب أن ينتصر الفن عندنا على قوى الشر .. لذلك فإننى انتهز فرصة العيد الأول للفن فى مصر لكى أعلن هذه القرارات ..»
وجاءت قرارات السادات فى العيد الأول للفن المصري، كالتالي: « أولا: أن تلتزم الأجهزة التابعة لوزارة الإعلام بكفالة الأداء العلنى فى الابداع الفنى والادبى للمؤلف والمخرج والمؤدى بحيث يكون لكل منهم الحق فى مقابل مادى عن كل مرة يقدم فيها العمل للجمهور. ثانيا: منح جائزة الجدارة وقدرها ألفا جنيه لعشرة من فنانينا وكتابنا بناء على اقتراح اكاديمية الفنون كل عام. ثالثا: منح شهادة تقدير لعدد من فنانينا وكتابنا ممن أسهمو فى تأصيل القيم الإنسانية التى ينطوى عليها نصر أكتوبر المجيد، بناء على اقتراح اكاديمية الفنون كل عام. رابعا: التأمين الشامل على الفنانين والفنانات وأهل الفكر والأدب. خامسا: التوصية لدى مجلس الشعب فى دورته المقبلة ـ باذن الله ـ بعدم احالة الفنان إلى المعاش مادام قادرا على العطاء. سادسا: إعادة النظر فى هيئات المسرح والسينما والموسيقى والكتاب وغيرها من مجالات الابداع بحيث تزال جميع المعوقات وتتكافأ الفرص أمام جميع الأجيال» وزاد الرئيس السادت يومها بقرار إضافى حول إعفاء قراء القرآن الكريم من الضرائب بواقع 25% من دخلهم، أسوة بقطاع الفنانين.
زينات صدقى .. والتكريم الشهير
وفيما يخص المكرمين فى العيد الأول للفن المصري، فقد تم منح الدكتوراه الفخرية لفكرى أباظة، وكذلك لسيف وانلي.
وتم منح فئة «جوائز الجدارة» إلى الفنانين الكبار ويتقدمهم النجم المخضرم عبد الوارث عسر، الذى عرفته «الأهرام» وقتها بأنه : «بدأ عمله الفنى مع بداية السينما المصرية التى كتب لها العديد من السيناريوهات والقصص .. ظهر فى معظم أفلام عبد الوهاب التى أخرجها محمد كريم .. درس التاريخ والشعر العربى بتوسع ويعتبر من أصدق الممثلين سواء على خشبة المسرح أو السينما والتليفزيون». ونال جائزة الجدارة أيضا: «شفيق نور الدين، وهو ممثل مسرحى وسينمائى بدأ حياته من فرقة جورج أبيض، انتقل بعدها للفرقة القومية التى تحولت الى المسرح القومي. وقد حصل على وسام العلوم والفنون عام 65، احيل الى المعاش، وبدأ المرض يداهمه فظل سنة كاملة يعالج من الربو»، وفقا للأهرام.
وكذلك وديد سرى ، والبالغ 63 عاما وقت التكريم، ويعتبر من أكبر مصورى السينما المصرية وكان من أوائل من درسوا التصوير فى الولايات المتحدة ومن أشهر أفلامه «صلاح الدين». ومعهم كان تكريم الموسيقار محمد الموجى والأديب الكبير إبراهيم المصري. وضمت الفئة نفسها، عبد المنعم رخا، والذى عرفته الأهرام يوم تكريمه بأنه: «أبو مدرسة الكاريكاتير المصرية.. الذى بدأت حياة ريشته العذبة فى صحافتنا منذ الثلاثينيات وحتى الآن». ولم تنته قائمة المكرمين هنا، إذ ضمت الفنان الكبير حسن فائق، الذى منعه المرض يومها من التواجد فعليا لتسلم «جائزة الجدارة»، وكذلك الممثل والمطرب حامد مرسي.
ولكن أهم لحظات حفل العيد الأول للفن المصري، كانت عند نزول الرئيس السادات عن المنصة التى كان يعتليها ليقطع خطوات فى استقبال الفنانة فاطمة رشدي، التى صرحت، وفقا لما أوردته «الأهرام»: «أن كل معاناتها قد زالت بعد هذا التكريم الذى تعتبره تتويجا لكل ما قدمته سواء على خشبة المسرح او السينما». وكذلك فعل مع زينات صدقي، فقد تقدم السادات لتكريمها، وهو التكريم الذى سبق وفاتها بفترة قصيرة وبعد معاناة طويلة قطعتها مع المرض وضيق ذات اليد، ووصفتها «الأهرام» يومها بأنها «أخلص تلميذات نجيب الريحانى».
«الرصاصة لاتزال فى جيبي» حصد شهادة تقدير:
فى فئة ثالثة للتكريم، نال المخرج حسن الإمام شهادة تقدير من الرئيس السادات، كما نال المنتج الأسطورى رمسيس نجيب، صاحب كبريات مشاريع الإنتاج فى تاريخ السينما المصرية، وفى مقدمتها «واسلاماه». وذهبت شهادات التقدير أيضا للفنانة سميحة أيوب، التى لم تتمكن من الحضور لمشاركتها فى الوقت نفسه بمهرجان المسرح العالمى فى برلين، والفنان الموسيقار على إسماعيل واسم الفنان الراحل زكريا حجازي. ونال النجمان محمود ياسين وحسين فهمي، شهادات تقدير عن فيلم «الرصاصة لاتزال فى جيبى»، وكذلك تم تكريم مخرج الفيلم حسام الدين مصطفي، لدورهم فى تخليد حرب أكتوبر.
وتأكيدا على الرابط ما بين عيد الفن، والنهضة الجديدة للدولة بعد حرب أكتوبر، كان من أبرز فئات الحضور، عدد من مصابى حرب 1973، والذين حضر بعضهم فقرات الحفل على مقاعد متحركة يحيط بهم فريق من التمريض. وشهد الحفل فقرات فنية متنوعة تليق بفكرة إطلاق أول عيد للفن فى مصر، بمشاركة النجوم هدى سلطان ووديع الصافى وياسمين الخيام، التى كانت تؤدى لحن بعنوان «موشح العيد» وهو من إبداع الموسيقار محمد الموجى وشعر فاروق شوشة. وكذلك اعتلى الموجى خشبة المسرح مغنيا لأشعار عبد الوهاب محمد والتى اتخذت عنوان: «زقزق العصفور». وكان عدد من الشعراء قد ألقوا أشعارهم يومها، منهم مصطفى الضمراني، و فاروق جويدة، وهما صحفيان بالأهرام، وبالإضافة للشعراء عبد الفتاح مصطفى وفاروق شوشة وحسين السيد.
رابط دائم: