رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

ناصر بين أسطورتين

ينتهى بعض الشباب من دراستهم الجامعية أو غيرها وهم لا يدرون ماذا يفعلون بأنفسهم، ويبلغ البعض من هؤلاء الثلاثين من العمر دون تخطيط للمستقبل أو السير على طريقه ولو بضع خطوات. وقد يقع الآحاد من هؤلاء فى آفة الإدمان وغيره من مسالك العبث والضياع لأنهم تأثروا بأصدقاء السوء بعد أن سافر آباؤهم إلى الخارج وتركوهم مع أقاربهم. غير أن هناك شابا ولد قبل مائة واثنين من الأعوام، فقد أمه وهو صغير، تزوج أبوه وعاش هو متنقلا بين أقاربه بعيدا جدا عن أسرته الصغيرة، لكنه لم يخسر نفسه أبدا، ولم يتلعثم فى التخطيط لمستقبله أبدا، فقد كان يعرف ما يريد ليس فقط لنفسه ولا لعائلته بل لبلده كله، ذلك البلد الذى كان محتلا من دولة عظمى أخذت تفقد بريقها العلمى، ومحكوما من أسرة علوية بدأت فى فقدان سمعتها الملكية، ومقودا بدستور برلمانى رائع ولكن بنظام حزبى أخذ يتهالك دون تجديد، وبحكومات وطنية أخذت تتوالى دون جدوى. لم يكن هذا الشاب قد بلغ الثلاثين عاما وهو يحارب العصابات اليهودية فى فلسطين، ويبدى بطولات نادرة ضد محاصريه فى الفالوجة، فما إن انتهت الحرب كان الرجل قد أدرك موضع الخلل الذى أفضى إلى النكبة وهو خلل السياسة والقيادة داخل العاصمة نفسها وليس فى ميادين القتال، بفعل وجود المحتل البريطانى ومندوبه السامى، الذى يتحكم بالقرار المصرى رغم أنف الملك الضعيف إن لم يكن الفاسد. عاد الضابط الشاب من الحرب عاقدا العزم على تحدى الاحتلال والقصر لبناء جمهورية مستقلة، وقد نهض بذلك عبر تخطيط دقيق رغم كل المخاطر المحدقة، إذ كان يكفى خطأ واحد لتوضع رقبته ورفاقه تحت المقصلة، ليتحول وهو لا يزال فى الرابعة والثلاثين من عمره، إلى أحد أبطال التاريخ المصرى، وليصبح بعد أربعة أعوام أخرى رائدا من رواد حركة التحرر القومى الذين تركوا بصمتهم على القرن العشرين، ذلك القرن المحورى فى التاريخ السياسى العالمى. إنه الشاب جمال عبد الناصر، الذى كان صعوده إلى الحكم أسطوريا، بينما تحكمت فى قيادته لمصر ودوره فى العالم أسطورتان. إحداهما يونانية تشى بجذور النزعة الإنسانية وتؤسس للروح البطولية فى الفكر الغربى. والثانية انجليزية، تشير إلى حلم العدل وتوق البشر إليه.

حكمت الأسطورة الأولى روحه البطولية فى مواجهة الخارج، خصوصا الهيمنة الغربية، منذ تحدى التاج البريطانى فى السويس، والاستعمار الفرنسى فى الجزائر، والنفوذ الأمريكى فى كل مكان. لقد رآه البعض عسكريا متهورا، دفع بمصر إلى آتون الصراعات والحروب من دون تعقل، متجاهلين روحانية البطل التى تدفع بالأحرار إلى قتال الآلهة كما يحكى شاعر اليونان الكبير هزيود أيام وأعمال البطل الإغريقى بروميثيوس الذى تحدى قرار الرئيس المستبد لمجمع الآلهة اليونانى زيوس، بمنع نار المعرفة والحكمة عن البشر التعساء، وكيف قام بروميثيوس بسرقة جمرة من هذه النار المقدسة ومنحها للناس. وهنا يشتد غضب زيوس على بروميثيوس فيأمر بأن يشد بالأغلال، ويسلط عليه نسر، يرعى كبده فى النهار حتى إذا طلع اليوم الثانى نبت الكبد من جديد، وعاد النسر يفترسها. وهكذا حتى قدم البطل الإغريقى هيراكليس أخيرا وحرره. هكذا تؤكد الأسطورة إمكانية انتصار الإنسان على تجهم القدر وسطوة الأعداء مادام انحاز إلى المثل الكبرى للحياة كالحق والعدل والحرية، فإذا مات أحد أبطال الإنسانية المدافعين عنها بُعث فى سواه، فليس المهم هو انتصار الذات فى تلك اللحظة نفسها، بل انتصار الإنسان والتأسيس للحظة التالية، وذلك هو المغزى الملحمى لسيرة ومسيرة ناصر، الذى لم يكن سوى ذلك الطراز الرفيع من الإنسان، البطل الملحمى الذى يدافع عن حق وطنه وأمته والإنسانية معتصما بكرامته وإرادته، ضد غرب منح نفسه موقع الآلهة ووضع نفسه موضع الأقدار.

أما الأسطورة الثانية فحكمت نزعته إلى العدالة الاجتماعية فى الداخل، حيث لعب دور روبين هود فى التاريخ الشعبى الإنجليزى، ولكنه على العكس من هود الذى جمع بين المتناقضات، فكان سارقا وزاهدا معا، يسرق الأغنياء كى يعطى الفقراء، كان ناصر أكثر اتساقا مع نفسه، أحب المصريين العاديين حبا لم تداخله بذرة شك أو ذرة نفاق، فحنا عليهم كما لم يفعل أحد قبله أو بعده. ولأنه كان بسيطا مثلهم، فقد أراد العيش كما يعيشون، متقشفا فى مسكنه وغذائه ونمط حياته الذى لم يتعد مستوى موظف ينتمى إلى الشريحة الوسطى من الطبقة الوسطى، يقترض لزواج ابنته، ويستكثر على نفسه تشييد حمام سباحة فى منزله (الرئاسي). بل إنه ترك أولاده بسطاء دون ميراث يذكر كما لم يفعل حاكم آخر منذ عمر بن الخطاب، أعدل حكام التاريخ الإسلامى، ولهذا يحلو لى دوما وصفه بالقرين الحداثى للفاروق عمر، وهو أمر يبدو صادما للإسلاميين خصوصا من الإخوان الذين يصمونه بمعاداة الإسلام، تفسير ذلك أن الرجل انتصر لنمط تدين جموع المصريين، ولقيم الإسلام الجوهرية التى تجعله فى خدمة الإنسان، بينما حاولوا هم توظيف ظاهر النصوص لمصلحة مشروع سياسى يمتطى الإسلام والإنسان معا. لقد سلك مع عموم المصريين كأب حقيقى أخلص لأبوته ودفع ثمنها خوفا وقلقا عليهم قبل أن يحصل على استحقاقاتها منهم. رعى الناس قدر طاقته كأحد آباء الطبقة الوسطى المكافحين، المستعدين للجوع لأجل تعليم وتربية أولادهم، على ذلك النحو الذى جسده الفنان حسن عابدين فى دراما الثمانينيات، ولذا فقد أحبه الناس بعمق لا يزال يعبر عن نفسه فى كل مناسبة يتجلى فيها احتياجهم إلى قائد يثقون به. كما صدقوه وساروا خلفه من دون تساؤلات تذكر عن الوجهة التى يقودهم إليها. بل لا يزال الضمير الجمعى يستعيده فى كل أزمة كبرى ولحظة مربكة، حتى إن صورته تبدو وكأنها علم لمصر، يحملها الكثيرون لتشد أزرهم وتثير فيهم الحمية والحماسة كما الاطمئنان والثقة. فليرحم الله ذلك الرجل العظيم الذى تتجدد ذكراه كلما ابتعدت، وكأنه عنقاء التاريخ تحلق فوق الزمن.

[email protected]
لمزيد من مقالات صلاح سالم

رابط دائم: