الشيطان يحب ويكره ويميل مع الهوي، وله ألسنة يعمل بعضها لحساب أحزاب أو تيارات، ومنها ما يعمل لحساب أجهزة مخابرات دول أو شركات متعددة الجنسيات. ومع أن الأساليب، الحيل أو الإكسسوارات، التى تستخدمها ألسنة الشيطان، أو وسائل الإعلام الدولية، فى صناعة الأكاذيب، لم تشهد أى تطوير أو تحديث منذ منتصف القرن الماضى، إلا أن كثيرين ما زالوا يقعون فى فخاخها، دون مراجعةٍ أو تدقيقٍ أو إعمالٍ لقليلٍ من العقل.
جبل من تلك الأكاذيب سينهار تحت قدميك، وأنت تقلّب صفحات كتاب صديقنا وزميلنا عبدالوهاب داود «سر الصنعة: كواليس صناعة الأكاذيب فى الصحافة والإعلام الدوليين»، الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، والذى يرسم فيه صورة واقعية لصحف ووكالات أنباء ووسائل إعلام دولية، تحظى بشعبية كبيرة لدى بعض الصحفيين والإعلاميين العرب، بل ولدى عدد لا بأس به من الأكاديميين، لدرجة أنهم صاروا يرون ما تعرضه أو تنشره دليلًا على أوضاع بلادهم، التى من المفترض أنهم أدرى الناس بها وبأزماتها، وبحقائق أرضها، غير أن الجهل الكسول أغنى هؤلاء عن بذل أى مجهود للمعرفة، ولو بالتلفت حولهم.
لأكثر من ثلث قرن عمل عبدالوهاب داود فى مطابخ صحف حزبية، قومية، خاصة، محلية وعربية. وله عن كواليس العمل الصحفى روايتان: ظهورات، ورواية المهزوم، استكمل فيهما رصد ما شهدته صاحبة الجلالة بعد المرحلة التى رصدها فتحى غانم فى زينب والعرش والرجل الذى فقد ظله. وفى كتابه الجديد يقدم تجربة خاصة جدًا، وتلخيصًا لحكايات رآها بعينيه تفضح صناعة الأكاذيب، وأساليب تجميلها، ومراحل نموها، والطرق المتبعة لترويجها، وتقديمها للقارئ الكسول. حكايات اعتمد فى بعضها على ما نشرته صحف ووسائل إعلام، عربية ودولية، واعتمد فى بعضها الآخر على رصد ردود الفعل، كما قام بالبحث والتنقيب فى كل ما طالته يداه من كتب، ومقالات، ودراسات، أو معلومات على شبكة المعلومات الدولية، لاستكمال الصورة. على مدى تلك السنوات، تساقطت أمام عينيه، وأعيننا، صحف ومحطات ووكالات أنباء دولية، تتمتع بحضور غير طبيعى لدى الكتاب والمحللين السياسيين المصريين والعرب، مع أن الوقائع، الأحداث، الوثائق والشهادات القادمة من داخل مطابخها، أثبتت أنها مجرد ألسنة، أو منصات، يستعملها كل من يدفع، أو من يدفع أكثر، حتى تحولت إلى ألسنة للشيطان، لا عمل لها إلا نفث الأكاذيب، والمعلومات المضللة، وتزييف الوقائع، لحساب خزانتها، أو لحسابات سياسية يتم وضعها فى دهاليز أجهزةٍ تعرف بالضبط أهدافها ومقاصدها من كل كلمةٍ يتم دسها بين السطور. عورات كثيرة انكشفت أمام عينيه، حين كان مسئولًا عن صفحات الاقتصاد العربى والدولى، فى واحدة من أكبر صحف الخليج، ورأى صحفًا توصف بأنها عريقة، تنافق، تناور أو تبتز، وتأتيه مشمولة بإشارات العناية، التخصيص، الاختصار أو الحذف. لا فرق بين صحيفة عريقة وأخرى شديدة الحداثة. ولا مانع من أن تنشر صحف اقتصادية متخصصة موضوعات عن السياسة أو المجتمع، أملًا فى الحصول على هبة. أو من أن تتناول مجلات سياسية أحدث صيحات الموضة القادمة من صحراء الخليج، إرضاء لصاحب المال، بينما تهتم مجلات الموضة بالأوضاع السيئة للعمالة الوافدة، لتبتز من تزعجه كلمات لا يقرؤها سوى كاتبها ومن يشترى وهم الموضوعية، الحياد، والقدرة على النفاذ والتأثير، ويأمل فى تحسين صورته أمام كل عابر ولو بالباطل.
فى الإعلام، كما فى الحياة، لا مكان للحياد التام، أو المصداقية المطلقة، لا مكان لعدم الانحياز، ولو بالحسابات البسيطة، فالميل والهوى، أو الانحياز، سمات إنسانية طبيعية. لكن المفارقة، هى أن من يبيتون نية الكذب، التدليس والابتزاز، صاروا يملأون الدنيا كلامًا عن المصداقية، الحياد، الدقة، المهنية، الخبرة الواسعة، عدم الانحياز، والتجرد التام من العواطف والانفعالات البديهية، بينما الواقع شاهد حى على تزييفهم الحقائق. وبعيدًا عن نظرية المؤامرة، وفوبيا الاستهداف، وغيرها من التصورات الجاهزة.
مِن «بى بى سى»، هيئة العنصرية والأكاذيب الموجهة، إلى وكالة رويترز، التى ارتضت لنفسها أن تعمل بالوكالة لحساب الغير، إلى جريدة الجارديان البريطانية، حديقة قطر الخلفية، مرورًا بالجزيرة القطرية، قناة الأدوار القذرة، يكشف عبدالوهاب داود، فى كتابه، محترفى التوصيفات والخلفيات الموجهة، ومَن باتوا متخصصين فى التبرير والتحريض على الأعمال الإرهابية مستشهدًا بمتابعات بلا شرف، ومستعرضًا نماذج لاعترافات صريحة بمخالفة المعايير المهنية، ولتقارير تم سحبها بعد نشرها، مع بيانات تفصيلية بالفبركة والتدليس لا تحتاج إلى تأويل، قبل أن يرصد بعض الأكاذيب البارزة والأيادى السوداء للكومبارس والمستأجرين، بفتح الجيم وكسرها. فضائح، أكاذيب وأوهام الصحف ووكالات الأنباء ووسائل الإعلام الدولية، كثيرة جدًا، لكنها أيضًا واضحة جدًا ويسهل كشفها بأقل مجهود، كما أن الأخبار، التقارير، المقالات والصفحات مدفوعة الأجر، لا تحتاج إلى جهدٍ يذكر لاكتشافها. فقط، عليك أن تفتح عينك على اتساعها عند المشاهدة أو القراءة، وأن تقوم بتمرير ما تقرؤه وتشاهده على دائرة الشك، التدقيق والمراجعة.
لمزيد من مقالات ماجد حبته رابط دائم: